مقالات

الشريف حسين والقضايا العربية.. “3/3” .. بقلم : د. علي ابراهيم

بعد يوم طويل ومرهق، تفقد فيه الشريف حسين بعض المشاريع الزراعية، وزار عدداً من قرى الريف، عاد إلى الخرطوم في ليلة 24 مايو 1969 ليخلد للراحة في إحدى الإستراحات، ولم تمرّ لحظات حتى دخل أحد خلصائه المقربين، ليبلغه معلومات أكيدة بأن صغار الضباط سينفذون إنقلابا عسكريا في تلك الليلة، توجه على الفور إلى منزل السيد رئيس الوزراء محمد أحمد محجوب وأبلغه بتلك المعلومات، لكن السيد محجوب قابلها باستهتار وعدم مبالاة وردّ عليه بأن الجيش لا يستطيع أن يقلب هذه الطاولة. (مشيراً الى الطاولة التي كانت أمامه).

وتحت إصرار الشريف وإلحاحه إتصل السيد محجوب بوزير الداخلية على مضض ليستفسر منه، وكان رد الوزير مباشرا ومن دون أن يكلف نفسه مهمة التقصى (لا يوجد ما يشير أن هناك أمراً غير طبيعي، وأردف بتهكم على وزير المالية، ويقصد الشريف، أن يهتم بشؤون وزارته فقط)، ولكن هذا الرد المجافي لروح الزمالة والخالي من المسؤولية، لم يثنه عن مواصلة ضغطه على رئيس الوزراء، لعله يفعل شيئاً لكي يوقف الإنقلاب، حتى أفلح في إقناعه بالإتصال “بآخر من يعلم” قائد الجيش الفريق الخواض محمد أحمد، الذي بدوره إتصل بالضابط المناوب في جهاز المخابرات العسكري تلك الليلة الرائد مأمون عوض أبو زيد، والذي كان من قادة الإنقلاب العسكري فرد عليه: إنها مجرد إشاعة، ولا يوجد أي شيء غريب أو مريب داخل ثكنات الجيش!

فغادر الشريف دار السيد رئيس الوزراء يجرّ أذيال الحسرة، ويتجرّع مرارة الامتعاض من واقع سلطة تتعامل مع مثل هذه الأمور المصيرية والخطيرة بتلك الطريقة السطحية، وغير المسؤولة.

عند الساعة الثالثة من صباح 25 مايو، أحكم الإنقلابيون سيطرتهم على مقاليد السلطة، واستيقظ السودانيون على نغمات الموسيقى العسكرية، ومارشات الجيش، والإذاعة تعلن عن بيان مهم فترقبوه، وبعد حين، ظهر العقيد جعفر نميري يعلن في خطاب الى الشعب استلام الجيش للسلطة، وتبعه رئيس الوزراء المعين السيد با بكر عوض الله بخطاب آخر.

وكان الإنقلاب من تدبير حفنة من صغار الضباط من الشيوعيين والقوميين العرب، تحت مُسمّى “تنظيم الضباط الأحرار”، وأضاف حلقة أخرى من حلقات الإنقلابات العسكرية التي حدثت في سوريا ومصر والعراق واليمن، وتبعتها ليبيا، التي كانت سبباً لكل مآسي العرب.

وكما كان متوقعا، وقفت مصر والإتحاد السوفيتي وكتلة الدول الشيوعية مع الإنقلاب، ودعمته. وبدأ ظاهرا من الوهلة الأولى بأنه ليس إنقلابا محليا، ولكنه قائم على ركائز دولية وإقليمية يصعب مواجهتها بالطرق التقليدية، وإنما بنضال طويل النفس، وعبر قنوات مبتكرة ومتطورة.

وكعادة أيّ إنقلاب ديكتاتوري غاشم، قام الإنقلابيون بحلّ الأحزاب السياسية والبرلمان وبتعطيل الدستور والقوانين، وبمصادرة الصحف، وإتخاذ جملة من القرارات تصب في ذات السياق.

وقاموا بإعتقال وسجن قادة الأحزاب، وعلى رأسهم الزعيم التاريخي إسماعيل الأزهري، الذي ظلّ في المعتقل حتى لحظة استشهاده.

ونقل إلى السجن أيضاً، أعداد كبيرة من السياسيين وقادة النقابات والفعاليات المجتمعية.

وهنا لا بد من إشارة مهمة، الى أن الإنقلابيين لم يعتقلوا رئيس الوزراء السيد المحجوب، ولا زعيم المعارضة السيد أحمد إبراهيم دريج، ولم يصدر من الإثنين ما يفيد رفضهما أو شجبهما لإنقلاب نزع السلطة منهما وأمام ناظريهما. وهو أمر يحتاج إلى تأمل، وكان مثار استغراب واستنكار الشريف حسين.

تحرك الشريف في سرية إلى قرية أم سنط بالقرب من مدينة “ود مدني” عند صديقه عباس كنين، ليدير معركة طويلة المدى، طبعت وجسدت معاني التضحية والفداء والجسارة والإقدام والثبات والإيثار، والتي شكلت مسيرته النضالية حتى لحظة رحيله.

كان النظام المرتجف يعرف مكمن الخطر فيه، ويعرف شراسته وعناده وصلابته وذكائه، ويدرك قدر سنده الجماهيري والشعبي، ولذلك جعل كل همّه إلقاء القبض على (الشريف الهارب). وكانت تقطع برامج التلفاز والإذاعة، وتعلن تقديم المال لمن يدلّ عليه، وتتوعد وتهدد من يأويه أو يتستر عليه، ولكن الشريف، وعلى الرغم من الوعد والوعيد، آوته بيوت البسطاء والفقراء من عامة الناس، بلا خوف أو وجل، وظل يتنقل من الخرطوم الى الجزيرة وبالعكس.

واستطاع أن يجري إتصالا بواسطة المرحوم با بكر عباس، مع الزعيم إسماعيل الأزهري فى المعتقل بسجن كوبر، وكانت توجيهات الزعيم الأزهري له، بعدم المهادنة أو الإستسلام للانقلاب، وبجمع الصف ووحدة الجهد، والعمل الجبهوي كأداة ووسيلة لإسقاط النظام.

في يونيو 1969، تحرك الشريف إلى الجزيرة أبا، حيث إلتقى مع الشهيد الإمام الهادي المهدي والشهيد محمد صالح عمر، وأعلن عن ميلاد الجبهة الوطنية في اليوم الأول لوصوله، وبدأت بذلك أول خطوة مؤثرة في مواجهة النظام، وعلى أثرها هاجر الشريف إلى أثيوبيا، وهو في طريقه إليها، وعند مدينة الكرمك، سمع باستشهاد الزعيم الأزهري في المعتقل، وكان وقع الخبر عليه مؤلما، ومؤثراً، بقدر فداحة الفقد، فالتقط الراية، وسار بها، وكان خير خلف لخير سلف.

وصل إلى أثيوبيا، وكون أول المعسكرات في الغابات، ومن هناك كان يرسل السلاح والذخيرة إلى الجزيرة أبا، والتي كانت ترتب وتنظم وتستعد للحظة الحسم، ولم يكن التخطيط أن تبدأ المعركة في الوقت الذي فرضت فيه قسراً، لأنهم كانوا ينتظرون مزيدا من الرجال والسلاح، وفي حاجة الى فترة أطول من التدريب.

في أوائل مارس 1970، إفتعل النظام حادثاً وهمياً، مدعياً بإن الديكتاتور تعرض لمحاولة اغتيال، وقام على أثر ذلك وبمساعدة سلاح الجوّ المصري بضرب (الجزيرة أبا) بصورة لم يشهدها عهد التتار ولا المغول، حيث قذفت الطائرات الآلاف من الشيوخ والنساء والأطفال من دون تمييز، فقتلت، ثم دفنت الكثيرين منهم أحياء.

كتب الشريف عن معركة (الجزيرة أبا): “كانت إحدى ملاحم الصمود والشجاعة التي قلّ أن يسجل التاريخ مثلها، والذي أريد أن أسجله هنا، أنه يوم فتحت (الجزيرة أبا)، لم تسقط بل سقط كل السودان بتاريخه ودينه وخلقه وقيمه. إن معركة (الجزيرة أبا) الحربية وغزوها بكل أنواع الأسلحة الحديثة، والدول التى تحالفت عليها، وشهداؤها الذين قابلوا الرصاص وصدورهم مفتوحة للموت، والذين دفنوا أحياء وهم يحملون القرآن في قلوبهم وفي أيديهم وفي ألسنتهم، ستظل ذكراهم خالدة في تاريخ الرجولة، وأخلاق العروبة بصورة ليس لها مثيل”.

وقتل الإمام الهادي المهدي، وهو في رحلة الهجرة لأثيوبيا للحاق بالشريف ، وهكذا غاب الإمام الهادي، وترك القضية وأنصاره أمانة في عنق الشريف.

كان ما طرأ من تطور مفاجئ غير محسوب، وما تبعته من غلظة وغلوّ ودموية لنظام، خالف الموروث الأخلاقي والسياسي السوداني، جعل الشريف يقيم الوضع بعقلانية وموضوعية أبرزتا عبقريته وحسن تصرفه، في نقل النضال الشعبي ذي القنوات التقليدية إلى العمل الثوري المسلح كأداة، ونهج للمقاومة، فكوّن قيادة عسكرية ومكتبا سياسيا وفتح القنوات الإعلامية وكرس جهدا عظيما لنقل المواطنين والمتطوعين في سرية تامة، من جميع أنحاء السودان عبر الحدود الأثيوبية، وأنشأ معسكرات مكتملة العدة والعتاد في الغابات وتبعها بمعسكرات أخرى مماثلة في الصحراء العربية، وكان التدريب يجرى على قدم وساق، إستعدادا للمعركة الفاصلة مع النظام، وكان هو القائد طوال سنوات التدريب والتأهيل والتجهيز، في حركة لصيقة مع جنوده بين الغابة والصحراء.

وفي داخل السودان، دعم التنظيم الحزبي، وهيأه لتحمل دوره في البناء الديموقراطي المستقبلي للبلاد، وكوّن جهازا في كل مصلحة ووزارة، وجند عيونا داخل المؤسسات العسكرية، ممّا وفّر المعلومات الأكيدة لفضح النظام وتعريته، وإفشال مخططاته، من خلال نشرها عبر صحف ونشرات المعارضة.

تم تنفيذ الحركة الثورية في يوليو 1976، بواسطة الجيش الشعبي المسلح، الذي قطع آلاف الأميال من الصحاري والغابات، في مسيرة لا مثيل لها سوى المسيرة الصينية.

ونفذت المهمة بنجاح كبير، وسقط تحت أرجلها النظام لمدة ثلاثة أيام، ولكن أدوات الإمبريالية والعمالة فى المنطقة تحركت بإيعاز من الولايات المتحدة الأمريكية، وكان لتوقف الإذاعة السودانية الأثر الكبير في إحباط الثورة، حيث عملت إذاعة القاهرة، التي عملت على نفس موجات إذاعة أم درمان وبإسمها، كما إعترف بذلك الرئيس السادات في لقاء مع الصحافي أحمد بهاء الدين، فمارست تضليلا ممنهجاً، وأكاذيب ملفقة هزت صورة الثورة والثوار، وخلقت جواً من الغشاوة والإرتباك والظنون.

ثم تحركت القوات المصرية عبر جسر جوّي، بدعوى أن هناك غزواً خارجياً للسودان، فأعادت العميل نميري إلى السلطة، الذي مارس هوايته في سفك دماء المواطنين، فقتل المئات منهم بلا محاكمات، ودفن كثيرين منهم أحياء في منطقة الحزام الأخضر جنوب الخرطوم، وكانت النتيجة النهائية تدخل سافر من النظام المصري في السودان، وبوجود عسكري تدعمه إتفاقية الدفاع المشترك الموقعة في يوليو 1976، وثم الإتفاق الأمني السري الموقع في أكتوبر 1982 وكانت النتيجة أيضا الإرتماء في أحضان الإمبريالية وارتباط وثيق بعجلة مخططاتها في المنطقة، فكانت تدريبات النجم الساطع في السودان، والموافقة على كامب ديفيد، ومشاريع الاستسلام والصلح المنفرد مع العدو الصهيوني، وإرسال قبائل الفلاشا عبر السودان إلى إسرائيل، والتواصل مع شارون، ومع بعض قادة الصهاينة.

بعد فشل انتفاضة يوليو الشعبية العسكرية، إنفرط عقد الجبهة الوطنية، بإنسلاخ الصادق المهدي منه، وعقده اتفاقا منفرداً مع جعفر نميري، من دون أن يحقق من خلاله أي مطالب أو إستحقاقات وطنية، ولكن لبى به مصالح شخصية وأسرية، وهذه سمة، طبعت سلوكه السياسي منذ ولوجه عالم السياسة وحتى الآن، أجادها أيّما إجادة، بشقه الصفوف في اللحظات المفصلية والحاسمة في المعارك النضالية.

وتبعه في الخروج صهره حسن الترابي، باتفاق آخر مع نميري، أصبح بموجبه النائب العام ووزيراً للعدل، وحامي حمى القوانين القهرية الظالمة، واتبع منهج الغاية تبرر الوسيلة، لتمكين تنظيمه من مفاصل الدولة الإقتصادية والإعلامية والعدلية والسياسية، مما مكّنه في نهاية المطاف إلى الإنقلاب على النظام الديموقراطي المنتخب، الذى كان هو جزء منه في يونيو 1989، بقيادة العميد عمر البشير، والذي حكم البلاد لمدة ثلاثين عاماً، دمّر فيها البلاد دماراً شاملاً.

وبقي الشريف حسين كالسيف، وحده يصارع النظام، الأمر الذي شكل عبئا جديدا عليه، فأعاد تقييم الموقف مرة أخرى، فطرح شعار التحشّد الشعبي والإضراب السياسي، كأدوات لإسقاط النظام، من دون التخلي عن الحلّ العسكري.

وعمل على خنق النظام إقتصاديا، بغرض تهيئة الأرضية الباعثة للثورة، لقناعته بأن الأموال التي تدفع إلى النظام، لا تتجه نحو التنمية والإنتاج، ولا تذهب الى دعم الطبقات الشعبية الفقيرة، بل يذهب جلّها إلى أجهزة النظام وبطانته، ولقهر وإذلال الشعب، كتب رسالته الشهيرة بعنوان: “أيها العرب (ملوك ورؤساء الدول العربية) لا تدعموا هذا السفاح”، شارحاً لهم فيها القضية السودانية بكل أبعادها، مطالباً لهم بوقف دعم نظام السفاح في الخرطوم.

تحرّك الشريف في جبهات متعددة لمحاصرة النظام، ونجح نجاحاً فائقاً في ذلك، مما جعل المستجدي نميري يعلن في ديسمبر 1981، ان كثيراً من الدول أوقفت دعمها له، بما فيها المملكة العربية السعودية، مطالبا اليد الكريمة السعودية، التي لطالما مدت له يد العون، ألّا تتوقف عن دعمه.

وبينما النظام يعيش محنته الإقتصادية والسياسية، خرجت جماهير طلاب المدارس والجامعات فى كل المدن والقرى، في إنتفاضة جماهيرية حاشدة في بداية يناير 1982، واستمرت تزيد وتقوى يوما بعد يوم، مطالبة بإسقاط النظام، وقيام الحكم الديموقراطي، فاتحة صدورها للرصاص، وسقط عشرات الشهداء، وكان النظام يحاول يائسا إستعادة السيطرة على الموقف، وكان القدر يخبئ ما لم يكن في الحسبان، حيث سقط القائد الشريف حسين شهيداً في معركته، وهو يحضر للمؤتمر العام للطلاب الإتحاديين الديموقراطيين في أثينا في 9 يناير 1982. وكانت آخر كلماته: “أبقوا عشرة، أحرصوا على القضية السودانية، وعضّوا عليها بالنواجذ”.

وقع الخبر على الجماهير وقوع الصاعقة، وعاشوا كل مشاعر الألم والحزن والحسرة على الفارس، الذي غاب في أحوج وأحرج اللحظات .

كان للفقيد الراحل مساهمات كبيرة وعظيمة، في الأطروحات الفكرية لـ”الحزب الإتحادي الديموقراطي”، حوتها الكثير من النشرات والصحف والمجلات التي كان يصدرها، وفيها عالج وقدم رؤى واضحة فيما يتعلق بعدة قضايا هامة، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، البديل الإقتصادي، الحكم المحلي ومشكلة الجنوب، الهوية السودانية العربية والإفريقية، الدين، العلمانية والاشتراكية، التربية والتعليم، عدم الانحياز، القضايا العربية والإفريقية والشباب والطلاب.

حاولت فيما سبق، أن أوضح لمحات من حياة الشهيد النضالية والفكرية، والتي هي مدعاة للتأمل والدراسة، لقد كان مجسداً لكل آمال شعبنا الصابر الصامد، والعاشق للحرية والديموقراطية، لقد كان زعيماً، توحدت حوله القلوب والعقول، وقائداً تجسّدت فيه كل معاني النضال والفداء، إلى أن نال إحدى الحُسنيين له الرحمة.

المجد والخلود لكل شهداء الثورة السودانية والعربية.

إنضم الى مجموعتنا على الواتس آب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى