مقالات

رحيل رجل استثنائي وداعاً.. بشير حسن الطيب العبادي محمد أمين أبو العواتك

قلت له وكنا وقتها نجلس معاً في عزاء الخال “عمر سليمان السباعي”، عليه الرحمة والرضوان، بعد عودتي من إحدى رحلاتي إلى بوخارست:
“يا بش”.. هكذا كنت أناديه..
“أنا عاوز أكتب عنك بعد أن أنتهي من كتابي (أيامي الفي الدويم)”..
التمعت عيناه والتفت إليّ بكلياته تركيزاً..
واصلت حديثي معه في تلك الجلسة، وقد تملكته الدهشة من معلوماتي الوافرة عنه، وفاجأه تتبعي لآثاره في أوروبا الشرقية كما كانت تسمى قبل انهيار (الحائط) وتداعي الاتحاد السوفيتي القديم، وهي فترة بواكير بداياته هناك، أيام دراسته الجامعية في رومانيا مع مجموعة مقدرة من أبناء السودان، وبداية تشكل أسطورة “عبادي” مع “الدنقل” و”لستون”..
وكل تلك الحكايات التي تؤرخ بروز مقدرات وملكات شخصية لهم، سطرت رحلة مسير متعددة الأوجه، تخطت الدراسة إلى عالم الأعمال ومغامراته، لتبقى حتى اليوم القاسم المشترك لكل جلسة وحديث عن ذكريات تلك الأيام، لكل من استظل بسماء تلك البلاد الأثيرة الساحرة وأهلها المضيافين سبعينيات القرن الماضي!

وهي بالفعل أحداث حقيقية وقصة مسير جرت على أرض الواقع في ذلك الزمان، لا تزال تمتلك سحر الدهشة عندما تُحكى وتُسرد، بل تستدعي تفاصيلها الضحك والقهقهات لأنها تمثل روح المغامرة والجرأة والشجاعة التي تمثلها هذه الشخصية من أهل السودان، التي تحتاج بالفعل إلى التوثيق، لأنها تمثل نمطاً أسطورياً لرجل نادر عاش بيننا، لكنه لا يقل عن كل تلك الشخصيات العالمية التي قرأنا عنها باهتمام ووثقت لها السينما العالمية.
قلت لـ”عبادي” مواصلاً حديثي في تلك الجلسة:
“لقد زرت (كمين (دي)، وشاهدت الشجرة التي كنت توقف تحتها سيارتك وأنت طالب في مجمع الداخليات في الحرم الجامعي في بوخارست”.
فأجابني بكل الدهشة بذلك الصوت المحبب العميق الممزوج لطفاً: معقووول!
وستدهش أنت أيضاً عندما تعلم أنه لم يكن في الحرم الجامعي في بوخارست سوى عربتين في ذلك الزمان.. واحدة ملك (الطالب) “بشير حسن الطيب العبادي” والأخرى (لمدير الجامعة).. ويتميز “عبادي” بأن له سائقاً رومانياً يعمل لديه..!!

تحتفل وتسعد كل الدنيا بإرث أساطيرها من الشخصيات الشعبية والمجتمعية التي شقت طريقها بصورة استثنائية سيراً في دروب الحياة.. وفي الجمع ما بين شجاعة المغامرة والكرم واللطف والأناقة والفروسية، وخلدت ذكراهم وثائقيات الأدب الشعبي، وتحفل المكتبة السودانية بالكثير من قصصهم على المستوى المحلي التاريخي، لكنها فقيرة في التوثيق لمن تجاوز المحلية إلى المستوى العالمي إلا ما ندر، فرحلة مسيرهم لم تكن عادية بأي حال من الأحوال، و”بشير حسن الطيب العبادي” أو كما يحلو مناداته في ذلك الزمان “عبادي” أحد هؤلاء الأفذاذ الذين أعتقد أنهم يستحقون أن يوثق لهم هذا (السعي النوعي) في دروب الحياة.. فهو يبرز ويمثل جانباً من الشخصية السودانية الطاغية المسيطرة، التي تمتلك كاريزما التعاطي مع كل المواقف ومختلف الأجناس في العديد من دول العالم الأول أو القديم.

فالراحل “بشير حسن الطيب العبادي” هو من نوع الشخصيات الذي تسبقه سيرته، كان أول من حدثني عنه شقيقي الأكبر “مرتضى” الذي كان من مجايليه في الدراسة الجامعية تلك الأيام في رومانيا.. على أن “عبادي” كان يسبقهم بسنوات قليلة وله مع أجيال الطلاب السودانيين الذين درسوا هناك حكايات وحكايات، فلقد كان “مرتضى” أحد ملاذاته الآمنة ومكان ثقته في الاحتفاظ بأماناته، خاصة النقدي منها من عملياته التجارية المتنامية عبر الحدود أو في حالات الطوارئ.. فمثلاً عندما احتاج يوماً أن يجري عملية الزائدة الدودية تحت بنج كامل كان يتصل بالأخ “مرتضى” قبل يوم لكي يكون حضوراً من مدينة كلوج إلى بوخارست لمرافقته، وكان الهاتف وقتها ثابتاً ووحيداً في الداخلية فيأتي صوته بتلك النبرة المميزة وطريقة السلام:
“ابن خالتي.. كييييف”
“بكرة تكون معاي لأني ح أعمل عملية”
ومع وصول “مرتضى” إلى بوخارست تكون وجهته وفقاً لإرشادات تلفون “عبادي” أحد فنادقها الفخمة ليجده قد هيأ (3) أجنحه فاخرة.. له ولحاشيته.. فمنذ أن ترك السكن في داخليات الطلاب بعد ازدهار أعماله كان “عبادي” يسكن في أجنحة في فنادق الدرجه الاولي، بداية من “هوتيل نورد” ثم فندق أحدث وهو “فندق بارك”، محافظاً على أسلوب حياة راقٍ منذ ذلك الزمان الباكر، محتفظاً بأناقة لافتة ودائمة في الأزياء تبرز هيبتها تكوينه الجسماني المميز..
والأخ “مرتضى” له معه حكايات متعددة، ليس آخرها عندما أتاه أحد الرومان مهرولاً في غرفته بالداخلية ناقلاً له أن السفير السوداني ينتظره في مكتب عميد الكلية بمباني الجامعة، وبالفعل أسرع إلى مكتب العميد وهو تتناوشه الخواطر عن ماذا هناك!!
وعند وصوله وجد عربة (مرسيدس) حديثة تقف بسائقها أمام مكتب العميد، والحضور من الرومان يتهامسون بأنه السفير السوداني، وسكرتارية العميد يقفون بالخارج بقلق في انتظار وصول “مرتضى” لإدخاله فوراً.. وعندما دخل مكتب عميد الكلية لأول مرة منذ قبوله بالجامعة، ألجمته المفاجأة عندما وجد “عبادي” في كامل أناقته بالبدلة البيضاء الكاملة والقبعة والغليون، ويقف خلفه اثنان من السودانيين في كامل هندامهما أيضاً في طقم أسود كامل..
عاجل “عبادي” “مرتضى” سريعاً باللغة الرومانية وعيناه مفتوحتان على اتساعهما مع نبرة صرامة:
“يا ولد.. قاعد تقرأ كويس ولّا عاملها كلها لعب وفوضى؟؟”.
وسلم “مرتضى” على (السفير عبادي) باحترام، الذي طلب من العميد تقديم كل المساعدات الممكنة للطلبة السودانيين، وتم وداعه رسمياً بكامل الحفاوة.. ولقد كان بالفعل أداؤه دبلوماسياً مشرفاً..

السبب الرئيس في زيارة “عبادي” القادم وقتها من ألمانيا عبر الحدود إلى مدينة (كلوج) كان لأخذ أمانته النقدية الدولارية التي سلمها لـ”مرتضى” قبل أشهر، على سبيل الأمانة عندما زاره فجأة في منتصف ليلة شتوية باردة..
سمع “مرتضى” ليلتها وفي وقت متأخر طرقاً شديداً على باب غرفته في داخلية الطلاب وصوت عبادي من الخارج:
“افتح يا ابن خالتي”
فتح له “مرتضى” الباب بوجه ناعس، ودخل “عبادي” ومعه اثنان من مرافقيه مع توجيهات فورية منه لـ”مرتضى” وزميله رفيق دربه الأخ العزيز والصديق “فضلي إسماعيل السيد البكري” بأن يكملا ليلتهما مع زملائهما في غرف أخرى.. وعادة عندما يزورهما “عبادي” تكون فرصة لهما لازدهار ميزانيتهما “التعبانة”، لأن “عبادي” وأصدقاءه وقتها قد سلكوا طريقاً مختصراً للحياة العملية بانخراطهم في دنيا الأعمال والفرص التجارية ومغامراتها في كل ما يدر مالاً، تساعدهم ظروف البلاد التي كانت ترزح تحت النظام الاشتراكي، ومعلوم الفوارق الاقتصادية بينه والنظام الرأسمالي وسلاح التطور باتجاه بدايات تشكل ملامح العولمة، فكان إدخال صندوق دخان من الماركات العالمية للسجائر أو بنطلون من الجينز من دول المعسكر الغربي يصنع فرقاً كبيراً.. فما بالك إن كانت كمية تجارية، أضف إلى ذلك أن أهل تلك البلاد مغرمون بمنتجات الغرب التي كانت محرمة عليهم، ويقدّرون بشدة مثل تلك الهدايا.

أتاحت شخصية “عبادي” المتفردة وملكاته الشخصية التي تستهويها روح التحدي والمغامرة، أن يكون اهتمامه مختلفاً وخارج صندوق مجايليه، بأن يلج ذلك الطالب الطموح مغامرات التجارة عبر الحدود، وأن يقتحم دنيا الأعمال في عالم الحرب الباردة بخلفياتها المختلفة، التي تنوعت لتشمل تجارة السيارات بإدخالها من ألمانيا الغربية إلى رومانيا ودول المعسكر الشرقي وملبوسات الجينز، وأنشطة أخرى في المشغولات الذهبية، وصرف العملات للسياح القادمين للسياحة في البحر الأسود كالتشيك والبولنديين.. ويمكنك تخيل ما كان يفعله ذلك الطالب وما يحوزه من مقدرات وثبات مع ما هو معروف تاريخياً عن القبضة الأمنية لأنظمة المعسكر الشرقي وحساسيتها لكل ما يأتي من الغرب.. ليختط قصة مسيره الحافلة، التي أخذته شيئاً فشيئاً عن الدراسة الجامعية التي أوقف الرومان منحتها مع تنامي شهرته وسمعته، وبالتالي إنهاء وجوده في رومانيا، لتبتدئ رحلة تنقله في العديد من الدول الأوروبية بعد ذلك، لتشمل ألمانيا حيث استقر في مدينة برلين مع ابن عمي الراحل العزيز “الطيب الأمين محمود”، عليه رحمة الله ورضوانه، الذي طاب له المقام واستقر وتزوج وقُبر هناك.. وانتقل “عبادي” بعدها إلى النرويج، وتحصل على جوازها الذي مكّنه من بعد من دخول إنجلترا حيث استقر أخيرا في “أكسفورد” بالمملكة المتحدة.

كما ذكرت، للراحل العزيز “عبادي” في تلك الجلسة، فلقد تجمعت لديّ العديد من الآثار منها ما أفاض به الصديق العزيز د. “عصام محجوب الماحي” الاقتصادي والكاتب الصحفي المستنير والمثقف الوطني الغيور، الذي استقر وزوجته العزيزة “ماريانا” وأسرتهما الجميلة في بوخارست، و”عصام” يظل محطتي الرئيسة هناك، فأسرته مثال باهر على الرباط الروماني السوداني السعيد، ولكم تناولنا الأكل البلدي السوداني من يد “ماريانا”، كما تجمعني بـ”عصام” الكثير من الرؤى والمشتركات في قضايا الفكر والاستنارة، وحدثني ذات مرة بأنه كان يسكن وهو طالب في السنة الجامعية الأولى مع الراحل “عبادي”، ولديه وآخرون جوانب من هذه السيرة الأسطورية التي تتعدد وتتنوع فصولها.
حكى لي د. “عصام” عن يوم تاريخي كان بمثابة الأساس في مهابة الطلبة السودانيين في رومانيا، وكان بطله كالعادة “عبادي”، الذي ابتدأت أحداثه عندما اعتدى أحد الطلاب الأفارقة على طالب سوداني وأوسعه ضرباً.. وكانت رومانيا في زمان “شاوسيسكو” منفتحة على دول العالم الثالث، ولديها صداقات واسعة مع العديد من بلدان العالم، ولأفريقيا نصيب كبير، مما يؤشر على نظرة الرجل الثاقبة، وكان أكثرها تميزاً مع السودان وخصوصية العلاقة الشخصية بين “نميري” و”شاوسيسكو”، التي يمكن أن تستبين ملامحها من الفيديوهات القصيرة المنتشرة على الوسائط عن الرئيس الراحل “جعفر نميري” في زياراته الخارجية، فلقد وصل عدد الخريجين السودانيين من هناك إلى ما يقارب (15) ألف طالب وطالبة تقريباً، وهي علاقات خلقت رباطات مجتمعية وأسراً ممتدة بين البلدين، ساعد على ذلك كيمياء الشعبين المتماثلة.

غضب “عبادي” غضباً شديداً عندما وصله خبر الاعتداء على زميله الطالب السوداني، وقام من فوره بجمع الطلاب السودانيين الذين كانوا في الداخليات، وتحدث إليهم في خطبة عصماء عن ضرورة تصحيح الوضع عاجلاً، لأن ذلك سيكون بمثابة سمعة السودان ومهابة أبنائه التي يجب أن نضع أساسها اليوم للأجيال، واختتم حديثه إليهم:
“ما عاوز زول يشارك في ضرب”
“أنا براي بدقهم كلهم.. بس تعملوا حاجة واحدة”
“تعملوا حساب إنهم يجوني واحد واحد…”
وقد كان.. حيث بدأ اليوم التاريخي في ذلك الشتاء والأرض يكسوها اللون الأبيض ثلجاً، و”عبادي” يرتدي يومها بنطلوناً أبيض اللون عاري الصدر.. ويمكنك تخيل منظر ذلك الفتى الوسيم بتلك البنية العالية وهو يتمكن وحده بذات الطريقة التي حددها من أن يؤدب كل المعتدين ومن انضم إليهم من الأفارقة بعد الاصطفاف الذي تم.. بل لم يقو أحد منهم على النهوض، وظلوا جميعهم مجندلين على ذلك الثلج.. ومن يومها لم يتجرأ أحد في حق طالب سوداني حتى ولو بكلمة غير مناسبة..

وحكايات “عبادي” و”الدنقل” و”لستون” و”بكراوي” في تلك البلاد تحتوي على المدهش والكثير من الأحداث، التي لا يزال يرددها أحباؤهم ومجايلوهم حتى اليوم، وكان لها أيضاً جانب رسمي آخر ممثلاً في السفارة السودانية، بعد أن سمع عنهم أحد السفراء، وكان حديث القدوم إلى محطة بوخارست وأخذ عهداً على نفسه بترحيلهم، عندها أخذ الأمر منحى تحدٍّ، لكن بهدوء وذكاء ولطف وله فصول متعددة، ضحكت جداً على لمستهم اللطيفة فيه.. كحكاية تلك الليلة التي كان فيها السيد السفير يتناول عشاءه في أحد الفنادق الكبرى.. وبعد الانتهاء أراد سداد فاتورة الحساب، فأخبره النادل بأن حسابه قد سُدّد، فاندهش عندما علم أن “الدنقل” الذي كان موجوداً قبله ولمحه في المطعم قد قام بالواجب وانصرف.. وهكذا كان السجال بينهم، وانتهى الأمر بالسفير مغادراً بعد سنوات لانتهاء فترة عمله، وعندما علموا بذلك تمكنوا بعلاقاتهم عبر رئيس الاتحاد لتسهيل حضورهم وداع السفير بالمطار لأرسال رسالتهم إليه.. بوداع وابتسامة لها مدلولاتها “ما قلنا ليك بنسفرك”!

في نهاية حديثي في تلك الجلسة مع الراحل “بشير حسن الطيب العبادي”، اقتنع بأهمية فكرة التوثيق لهذه الرحلة النوعية، ووافق أن أبدأ في الكتابة عنه، التي تتطلب إضافة إلى ما هو متاح لديّ من أحداث ومعلومات، جلسات وجلسات معه، لتوثيق الأحداث بوضع الهيكل العام للسيرة الذي بالتأكيد سيمثل شمولية التغطية التي يعرف تفاصيلها الكلية بالطبع هو شخصياً، حتى أغطي ما غاب أو لم يُعرف للآخرين، والأهم المستويات النوعية للأحداث، فلقد توافرت لديّ معلومات من آخرين حول اجتماعات له لمساعدة ثوار نيكاراغوا وإمدادهم وغيرها، ولكن.. السنوات الأخيرة لم تكن طبيعية بأيّ حال من الأحوال مع تطورات الأوضاع في السودان، إضافة إلى محاذير وباء “كورونا”، لم تمكّن في مجملها من بداية العمل المباشر في هذا المشروع التوثيقي مع فقيدنا الحبيب “عبادي”.
كنا نتبادل الرسائل الراتبة “شبه يومي” عبر “واتساب”، وكنت أبقيه على اطلاع في ما أنشط أو أكتب فيه دائماً.. إلى أن انقطعت عنه لفترة بسبب تداخل المشروعات التي أعمل عليها في ذات الفترة الزمنية وأحداث السنوات الأخيرة، فوصلتني نهار أحد الأيام رسالة رقيقة منه معاتباً انقطاعي عنه.. موضحاً ارتباطه وإعجابه الشديد بما أكتب.. فكرياً وعرفانياً وأن لا أوقف الإرسال، خاصة فيديوهات قصائد المدح النبوي التي درجت على إرسالها إليه وإلى ثلة من الأحباب، وهو جانب إيماني عرفاني متنامٍ أعلمه عن الراحل عبادي في السنوات الأخيرة التي توطدت فيها علاقتنا الشخصية، يتماسّ مع أشياء داخلية مغروسة فيه منذ الصغر كان وفياً لها ظلت تمثل ملمح نبل هذه الأسطورة.. فهو بالفعل من النبلاء نشأة وقيماً، لا يتنازل عن هذا المستوى أو يساوم عليه مهما كان.. فهو إن كان لا يهتم بضبط النظم الرسمية في بعض الأحيان وتضيق أحلامه بقيودها، إلا أنه يتجاوزها بلطف وشرف وإباء.. مسهلاً أمره وخدمة مصلحة الغير أو عملاً للخير كما رصد بعض أحبابه، وظل طوال حياته حريصاً على قيم المساعدة والعطاء والكرم.. فلقد كان أجواداً ولا يختلف على ذلك اثنان، بل يجمع الكل على ذلك.. سراً وعلانية، مبذولاً للآخرين.. وليس أدل من كرمه حتى في وفاته وصاياه التي بلغها الأخ الحبيب “الباقر سعران” للجموع التي توافدت للعزاء بأنه لم يرد أن يتكبد شخص عناء تكلفة المشاركة، كما جرت العادة عند السودانيين في حالات الوفاة ببريطانيا بالمشاركة المالية لارتفاع تكاليف مواراة الجثمان هناك، وأن الراحل قد جهز كل التكاليف..
كان الراحل “عبادي” رغم سخونة أجواء أعماله، عفيف اللسان، نظيف المفردة، وينفر من البذاءة التي عنده لا تتناسب وتخل من أسلوب النبلاء، بل كان حلو المفردة، تسبقها مقدرات قوية في قراءة من يتعامل معه ومعرفة مفاتيح الشخصيات، وبراعة في توظيفه للصوت علواً وانخفاضاً أو تحذيراً، مع تحكم لا محدود به في الآخرين.. شديد الثقة بالنفس وقدراته، وهي كاريزما خاصة به، فهو بلا شك سيد المجالس وفاكهتها، وروح الدعابة والطرفة، والجميع في انتباه وإنصات، وتسير بأحاديثه الركبان.

سيظل الراحل “بشير حسن الطيب العبادي”، عليه رحمة الله ورضوانه، حياً في قلوب كثير من الناس في رحلة المسير الاستثنائية هذه، التي تتعدد فصولها بتعدد الناس والجغرافيا، فلكل منهم معه حكاية وفصل..

سيظل الراحل “بشير حسن الطيب العبادي” حياً في قلوب أحبابه من الذين أثر في حياتهم، مساعدة بمختلف أنواع الدعم في بواكير حياتهم في المهاجر وفي السودان..

سيظل الراحل “بشير حسن الطيب العبادي” حضوراً ممتداً في زوجه وأبنائه وأسرته الكبيرة الممتدة، وأعزي إخوانه وأخواته .. نفسي ومجايليه وأصدقاءه وأحبابه في هذا الفقد الجلل..

سيظل الراحل “بشير حسن الطيب العبادي” ابن مدينة الدويم الوادعة التي شكلت مجتمع أهل السودان، بمختلف بصماتها، حضوراً ما دامت سيرته اللطيفة ومفرداته التي تنشر الفرح وتصنع الابتسامة تتناقلها الأجيال.. أعزي أهلها جميعاً وأهلنا العبابدة وحلة البحر وأحباب ورفقاء صباه، وكل تلك المشاوير الأثيرة على ضفاف بحر أبيض والسودان الكبير..
وكما قال الراحل “عبادي” للأخ الحبيب “محمد جبر الدار” عندما زاره من مانشستر معاوداً في أكسفورد بعد عملية نقل وجراحة الكلى التي أجراها قبل سنوات:
“أنا ما خائف من الموت وعارفو قرب.. وواثق تماماً وأقسم الله على ذلك.. إن بيتي في الجنة ناصية.. وإن الله يعلم كل شيء”.
إلهي نشهد أن عبدك “بشير حسن الطيب العبادي” قد مات وهو يحسن الظن بك، فاجزه اللهم برحمتك من الحسنى بقدر ما أحسن بك الظن.. إنك الكريم اللطيف الرؤوف
الرحيم..
اللهم آمين

إنضم الى مجموعتنا على الواتس آب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى