أعمدة

بُعْدٌ .. و .. مسَافَة .. مصطفى ابوالعزائم* *الصحفي (الرايق) وأسرار الغناء السوداني ..*

أما الصحفي (الرايق) فهو صديقنا الأستاذ “عبد الله رزق” مساعد رئيس تحرير صحيفة المجهر السياسي ، الورقية ، قبل أن تتحول الآن إلى صحيفة إلكترونية ، وكلمة (رايق) بدارجيتنا الفصيحة إنما تعني الهادئ البال ، غير المهموم ، وهو حقيقة يبدو كذلك ، فليس علينا إلا بالظاهر ، لكننا لا نعرف ما يدور وما يمور داخل عقله ، خاصة وأن هناك إبتسامة شبه دائمة لا تفارق شفتي الرجل ، لتصبح تلك الإبتسامة دليل صحة عقلية ونفسية وروحية عظيمة.
قبل أيام كتبت مقالاً عن عظماء التلحين والموسيقى في بلادنا، وأشرت إلى أن الموسيقار الكبير الأستاذ “إسماعيل عبد المعين” لم يجد ما يستحق من التقييم، رغم أنه صاحب أناشيد المؤتمر الثلاثة (صه يا كنار) ،للشاعر النسر “الصائغ محمود أبو بكر” ،و(صرخة روت دمي) للخبير التربوي الدكتور “محي الدين صابر” ،و(للعلا)، للسياسي والكاتب الصحفي والوزير ،”خضر حمد”، الذي كتب في الصحافة الاتحادية باسم (طوبجي).. ثم نشر المقال ،وقد أثار الكثيرين، خاصة في جانب الألحان التي وضعها الموسيقار “عبد المعين” – رحمه الله – وتغنى بها آخرون ، ونُسبت لغيره ، وقد سجل لي اعترافاً خلال النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي عن ذلك ، وقد رأيت أن الأمر خطيرٌ وكبيرٌ ومثير ، لذلك نقلت الأمر لأصدقائي وزملائي، في المنتدى الأدبي، وكان ينعقد يومذاك في منزل صديقنا الشاعر الكبير “عبد الوهاب هلاوي” بحي الدناقلة بالخرطوم بحري، كما أسلفت من قبل ؛ لنذهب نحن مجموعة ،ذكرتها في المقال السابق ،حتى يستمعوا جميعهم إلى تلك الإفادات.
الصحفي (الرايق) الأستاذ “عبد الله رزق” سألني لماذا لم أنشر أسماء الفنانين والأغنيات؟، فقلت له: إن كل الأطراف الآن في ذمة الله ، والنشر في الوقت الحالي ، قد يثير بلبلة لسنا في حاجة لها ، ولن تفيد ، ثم أن صاحب الحق نفسه لم يحتج على الأمر ، بل حكاه لنا كتاريخ ، بل قال إنه باع أحد ألحانه ، لفنان كبير مقابل أربعين جنيهاً، في أحد مقاهي القاهرة.
سألني الصحفي (الرايق) الأستاذ “عبد الله رزق” عن بعض معرفتي بأسرار الغناء السوداني ، فلم أنكر ، وحدث أن قال زميلنا وصديقنا الكريم الأستاذ “يوسف عبد المنان” : إن فلاناً هذا- يقصد كاتب هذا المقال – يعرف أسماء الشعراء وتواريخ القصائد الغنائية ، ومن قام بتلحينها ويعرف حتى اللائي كتبت فيهن تلك الأغنيات .
وصديقنا الأستاذ “يوسف” قد يكون مبالغاً بعض الشيء، لكنه قال ما قال ، ونحن نقيم داخل نُزل أنيق وجميل في مدينة (فيرني فولتير) بفرنسا ، مع الحدود السويسرية ، حيث كنا نقوم بالمشاركة في أعمال مجلس حقوق الإنسان ، بجنيف – وقتها – ومعنا مجموعة من الزملاء كان من بينهم الزملاء الأساتذة “محمد الأمين دياب” ،و”أحمد دقش” وآخرون، وكنت أحمل معي جهاز الآيباد، الذي لا يفارقني، ودخلت من خلاله على موقع مكتبة الإذاعة السودانية ، ذات ليلة دافئة من ليالي أوربا الحالمة ، وأسمعتهم من مكنونات المكتبة ، بعض دُرر الغناء السّوداني ، وقصصت عليهم وفق ما سمعته من أصحابها أو أصحابهم رواياتها الحقيقية ،مثل : “بدور القلعة” ل”أبو صلاح” ،و”ماريا” ل”صلاح أحمد إبراهيم” و”قائد الأسطول” ل”سيد عبد العزيز” ، و”مداعب الغصن الرطيب” لذات الشاعر ، و”هوي يا ليلى” ، وهي من الشّعبيات التي وجدت حظها من الإنتشار بأصوات فنانين كبار ، وأغنية “خداري” ل”عبد الرحمن الريح” ، وهي واحدة من الأغنيات الشعبية (غناء بنات) في أربعينيات القرن الماضي، أو قبل ذلك ، فأدخل الشاعر الكبير “عبد الرحمن الريح” روحه ونفسه وإحساسه ، لتصبح على لسان أمير العود الأستاذ “حسن عطية” واحدة من علامات الغناء السوداني الحديث.. وكثير من الأغنيات .. وللعلم فإن هناك صلة ما بين أغنيتي « هوي يا ليلى » و « خداري » فمن كُتبت فيه الأغنيتان هو شخص واحد ، كان طبيباً تغنت له فتيات ذلك الزمان ، عندما كان يعمل في مستشفى « ودمدني » ويبدو هذا من الوصف في ( ببكي واهاتي من المحطة لفريق القطاطي ) وليلى تلك هي ابنته ، رحمهما الله ، وقد إنتقلت إلى رحمة الله قبل نحو ثلاثة أعوام .
رسخ ذلك الحديث والتفسير والمعلومات في أذهان الزملاء الكرام ، وفي مقدمتهم الأستاذ “يوسف عبد المنان”، فظنوا بي خيراً وعلماً ومعرفة ، وروَّجوا لذلك ، وكنت أقول دائماً أن شرح بعض الأغنيات ،يفسرها .فليغنِ المغني وليغنِ كل منا على (هواه) أو على (ليلاه) .ومع ذلك راح ذلك الرأي خاصة بعد أن روَّج له صديقنا الأستاذ “يوسف عبد المنان” ، ويبدو أن عقل صديقنا (الرايق) الأستاذ “عبد الله رزق” كان له مستقبلات ، لمثل هذه الآراء المرتبطة بالتوثيق أو المعلومات ، فطلب مني ضرورة تدوين ما أعرفه من معلومات حتى ولو كنت أرى أنها غير مهمة بحسبان أن الغناء هو جزء من التاريخ الإجتماعي للأمم والشعوب ، وقد إتفقنا حول هذه النقطة ، التي تقول بأن الغناء هو جزء من التاريخ الإجتماعي للأمم والشعوب.. لكنني إزددت حيرة حول إمكانية التوثيق في بلاد يقوم كل شيء فيها على براكين الحساسية ، ترى هل أستطيع القول إن (ليلى) ، هي تلك السيدة الفضلى التي كانت تعيش في إحدى ولاياتنا البعيدة ، وأن والدها هو طبيب راحل ، تغنت له فتيات عصره ب(خداري)؟.. ترى هل يمكن أن أشير – ولو إشارة – إلى (قمر) ، التي تغنى لها “ود القرشي” وهو طريح الفراش في المستشفى الملكي بالخرطوم.. وقد إلتقيت بها شخصياً ، وأعرفها جيداً.. ترى هل ذلك ممكن؟.. وغير (ليلى) و(قمر)، كثيرات مثل بطلة (بدور القلعة) ، وهي للعلم ، لم يكن إسمها “بدور” . وقد أورد الشاعر اسمها داخل الأغنية ، وهل يمكن أن نكشف عن شخصية حسناء المسالمة التي تبارى الشعراء في مدحها لجمالها وحسنها وأدبها ، وقد كتبوا فيها جميعاً، من (ظبية المسالمة) إلى (مداعب الغصن الرطيب) ،وما بينهما.. وقد عشت ونشأت في حي المسالمة.. شرق ، أعرف خفاياه وأسراره ، وما يحيط به من قصص وحكايا.. لكن كتابة قصص الأغاني ، لن تفسد التاريخ فحسب.. بل قد تفسد العلاقات.

Email : sagraljidyan@gmail.com

إنضم الى مجموعتنا على الواتس آب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى