أعمدة

جدل عقيم حول المدنية والعسكرية عطل تقدم الدولة بروفيسور صلاح محمد إبراهيم

جدل عقيم يدور حول المدنية وعدم مشاركة العسكريين، وينسى السياسيين أن الكلية الحربية السودانية يدخلها طلاب المدارس الثانوية والجامعات المخترقين من الأحزاب منذ سنواتهم الأولى، ولكن باعتبارها مصنع الرجال ينسون ويتركون وراءهم انتماءاتهم الحزبية بعد التخرج وتشربهم بالقومية والوطنية ألا قلة منهم .
مضت ما يقرب من أربعة سنوات من عمر السودان بعد ثورة ديسمبر 2018، والنتيجة صفر كبير تدهورت فيه حياة السودانيين إلي درك سحيق، خلال هذه السنوات أكملت الجارة الأثيوبية الملء الأول والثاني لسد النهضة وتم توليد الطاقة الكهربائية، وشهدت الشقيقة مصر طفرات هائلة في مشروعات البنية التحتية والغاز ومضاعفة الطاقة الكهربائية وبناء حياة كريمة للمواطن المصري ، وأكملت دولة قطر مشروعات كأس العالم الضخمة بتكلفة 200 مليار دولار، وفي السودان ما زال الحال على ما هو عليه (كل واحد شايل مبادرة تحت ( آباطه ) ويعتقد أنه يملك الحل للأزمة. يمر السودان بحالة من التشظي والانقسامات السياسية لم يشهدها طوال تاريخه، مرحلة من عدم الاستقرار اصبحت تهدد مستقبل الدولة السودانية الحديثة، ومشهد كاد أو اصبح فعلاً خارج سيطرة الإرادة السودانية ، حالة تكتنفها لغة التخوين وقدر كبير من عدم الثقة بين المكونات المختلفة المؤثرة على المشهد السياسي، حالة من فقدان الإحساس بالخطر المدمر وعدم الشعور بالمسؤولية الوطنية والتحجر وراء المواقف المعلبة واستخدام المصطلحات دون التعمق في معناها ورفعها كشعارات، وكل طرف يفسرها وفقاً لهواه وأهدافه ويدعي انها تمثل الاجماع الوطني وفي حقيقة الأمر لم يكن هناك اجماع وطني غير اليوم الذي خرج فيه كل من السيدين الحسيب النسيب علي الميرغني والسيد عبد الرحمن المهدي في موكب مهيب وورائهم جموع الشعب السوداني يوم إعلان الاستقلال من داخل البرلمان والتوجه نحو قصر الحاكم العام وقيام الزعيم إسماعيل الأزهري برفع العلم، وفي رأي في ظل هذه الخلافات التي غرق فيها احفاد هؤلاء الزعماء، تقتضي الضرورة أن يردوا الأمانة إلى أصحابها الذين قاموا بتأسيس هذه الدولة و العودة إلى منصة التأسيس النسخة الأصلية وهي الدستور الانتقالي لعام 1956 وتعديلها ، وليس وثيقة 2019، أو دستور تيسيريه المحامين ، أو مبادرة الجد أو غيرها التي تفتقد الاجماع الوطني .
المدنية وتفسيرات كاذبة
منذ انتصار ثورة ديسمبر 2018، أصبحت كلمة المدنية شعاراً يتردد بين النشطاء والسياسيين المعارضين للنظام السابق ,;وكأنها نقيض لتولي عسكريين للحكم ولحقت بهم التظاهرات في الشارع تردد تفس الكلمة وكذلك الفضائيات ، وما زالت الكلمة ترفع كشعار يتردد باعتبارها نقيضاً للعسكرية بينما المعاجم تقول ان الدولة المدنية هي تلك التي تطبق القانون وتحمي المجتمع بعيدا عن الانتماءات القومية او الفكرية وتقوم على التسامح وقبول الاخر والمساواة مع وجود سلطة تحمي تلك الحقوق وعند الغربيين تعني ان لا يتم خلط الدين بالسياسة( العلمانية )، وفي الدين الإسلامي لم يحدد الرسول صلى الله عليه وسلم شكل معين للدولة عسكري او مدني وقد تعاملت الدولة الإسلامية مع الحبشة وهي دولة غير إسلامية ، والعلمانية لا تهتم بشكل الحكم الذي يمكن أن يكون علماني عسكري مثل كوريا الشمالية وحزبي مثل الصين وجمهوري مثل روسيا، وفي المدنية لابد من التداول السلمي للسلطة ( المصدر ويكيبيديا).
دخلت كلمة الفترة الانتقالية في القاموس السياسي السوداني بعد ثورة أكتوبر 1964 ، من خلال جبهة الهيئات التي كانت تسيطر على المشهد السياسي لعدم ثقة اليسار وخوفهم من أن يقوم الحزبين الكبيرين الأمة والاتحادي بشكيل الفترة الانتقالية ووضع دستور على مقاسهم وأصبحت تتكرر مع كل انتقال من نظام إلى نظام ، ولكن هذا المصطلح لم يكن مشكلة طيلة فترتي الانتقال السابقتين في 1964 ، 1985، ولكنه أصبح مشكلة بعد ثورة ديسمبر 2018، بسبب الخلاف حول تفسير المدنية التي يرى البعض أنها تعني عدم مشاركة العسكريين في الحكم .
عندما نتابع قضية المدنية في السودان على خلفية ما يدور الان من جدل ، نجد أن الفريق عبود كان يمثل نظاماً عسكرياً مدنياً أقرب إلى العلمانية ولم يكن هناك تضييق على غير المسلمين باستثناء ما كان يجري من صراع في الجنوب وهو لم يكن له طابع ديني ، والعسكريين كانوا يديرون كل الدولة برتبهم العسكرية ( المجلس الأغلى للقوات المسلحة) ، واستعان عبود بأحد اعلام الحركة الوطنية وهو أحمد خير المحامي ( مدني) ليكون وزيراً للخارجية ومفكرا للنظام، ويؤخذ علي نظامه عدم الأخذ بفكرة تداول السلطة ، ولكن الممارسة كلها كانت تعبر بدرجة كبيرة عن المدنية ، ثم جاء النميري وسار على ذات الطريق في البداية عسكريين سيطروا على مفاصل الدولة ، ولكن دورهم تراجع تدريجياً وحل مكانهم مدنيين منظرين للحكم ( منصور خالد وجعفر محمد علي بخيت وموسى المبارك( اثنان منهم حزبيان من الأمة والاتحاديين) ، ثم جاء عز الدين السيد ( اتحادي) ومجموعة كبيرة من التكنوقراط منهم على سبيل المثال ( علي محمد شمو وبدرالدين سليمان، ومحمد الحسن احمد الحاج وابوبكر عثمان محمد صالح ) واصبح من الصعب أن تطلق علي نظام نميري صفة نظام عسكري وكان ذلك قبل أن يتحول إلى التحالف مع الإسلاميين المدنيين ابضا ، كان الاتحاد الاشتراكي الحزب المدني الذي يدير الدولة في تقلباته السياسية المختلفة ، تجربة البشير ربما تختلف لأن استيلاء الإسلاميين على السلطة تداخل فيه المدني والعسكري وكان الدور المدني أكبر ، وبات معلوماً أن ما تم كان بتدبير من المدنيين وإن كان على رأسه احد العسكريين .

33 عسكريا حكموا الولايات المتحدة
الولايات المتحدة الأميركية دولة مدنية لا دينية علمانية شكلاً، ولكن التأثير الديني الطائفي ظل واضحاً في خيارات الناخبين الذي ظلوا يختارون اغلبية من الرؤساء البروتستانت ونادراً ما ينتخبون كاثوليكياً مثل ( جون كيندي)، كان اول رئيس هو جورج واشنطن عسكري أميركي ورجل دولة حكم بين 1789-1787 وكان القائد العام للقوات المسلحة ورئس لجنة الدستور ووضع كل التقاليد التي تسير عليها اميركا.
و من العسكريين توماس جيفرسون ثالث رئيس وهو كولونيل، وجيمس مونرو خامس رئيس للولايات المتحدة عسكري خاض المعارك العسكرية واندرو جاكسون كان الحاكم العسكري لفلوريدا ، وجيمس بوك الرئيس الحادي والعشرين 1845 ، كان عسكريا وبنجامين هاريسون الرئيس الثالث والعشرون وتقلد رتبة عميد خلال الحرب الاهلية 1889، وثيودور روزفلت كان ضابطا وهو الرئيس السادس والعشرون، هاري ترومان 1945 كان ضابطا في المدفعية ، ولعل اشهرهم وداويت ايزنهاور الرئيس الثالث والثلاثين بين 1953 ، وكان قائد جيوش الحلفاء في يوم نورماندي الذي تم فيه غزو أوروبا وكان بداية انهيار الرايخ الثالث الذي كان يتزعمه هتلر الزعيم الألماني ، ولعل اكثر رؤساء اميركا شهرة في النصف الثاني من القرن العشرين هو جون كيندي ( كاثوليكي) وجون كيندي عمل قي الاسطول الاميركي خلال الحرب العالمية الثانية وريتشارد نيكسون الرئيس عمل لأريعه سنوات في سلاح البحرية وتخرج من الكلية الحربية في كونست بوينت.
الجدل العقيم حول المدنية والعسكرية اطال امد الأزمة السودانية بعد ثورة 2018، وعطل الدولة وشل الإرادة السودانية واستقلالية القرار الوطني ، وظهرت حالة من العجز بين الفاعلين السياسيين ، لذلك اكرر ردوا الأمانة لأصحابها الآباء الأوائل نقطة البداية الحقيقية .

إنضم الى مجموعتنا على الواتس آب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى