بيانات

الأزمة السودانية بين الجامعة العربية والبعثات الأممية بقلم: بروفيسور صلاح محمد إبراهيم

عودة الميرغني إلى السودان تؤكد قدرة الفعل العربي في التأثير على الأزمة السودانية، و أن حل الأزمة السودانية كان منذ البداية يستحق أن تعقد له قمة عربية أو اجتماع خاص لوزراء الخارجية، ولعل ما يعزز هذا القول هو أن كل الفاعلين في الأزمة السودانية واقعين بصورة أو أخرى تحت تأثير دول الجامعة العربية، وليس مجلس الأمن أو الاتحاد الأوروبي أو حتى دول الاتحاد الأفريقي أو الولايات المتحدة الأميركية عدا قلة من السودانيين المهاجرين مزدوجي الجنسية وهو وجود غير مؤثر ، كذلك اعتقد أن ما بعد عودة مولانا على طائرة مصرية خاصة بتوجيهات من الرئاسة المصرية والرئيس عبد الفتاح السياسي سوف يكون مختلفاً عن ما قبلها، وأن تحريك الملايين الحقيقية في الشوارع ما زال من اختصاص الأحزاب الطائفية شئنا أم ابينا هذا هو الواقع .
ما حدث في مطار الخرطوم يوم عودة الميرغني يوم 21 نوفمبر 2020، يثير قضية الأوزان الحقيقية للقوى السياسية التي تثير الضجيج في الساحة هذه الأيام ، وقد تزامن مقدم الميرغني مع تصريحات قبل أيام لممثل الاتحاد الأفريقي السيد محمد بالعيد يعلن قرب التوصل إلى تسوية بين الفرقاء في السودان ، وقال أن المعيار حول الاتفاق المتوقع سوف يكون بأكبر عدد وليس الأغلبية المطلقة، ومن المعلوم بالضرورة أنه ليس هناك اغلبية مطلقة في العمل السياسي خاصة إذا ما كنا نتحدث عن قيام دول ديمقراطية ، و (جون ملتون ) أحد اكبر رواد الفكر الليبرالي بل هو أول المؤسسين للنظرية الليبرالية ، لم يقل أن هناك اغلبية مطلقة ، بل قال أن الفكرة النيرة هي ضوء في نهاية النفق يهدي إلى الحقيقة وتتبعه الأغلبية من عامة الناس وليس الصفوة من الناس ، لذلك اطلق على البرلمان البريطاني مجلس العموم البريطاني ( House of Commons)، ومن لا يعرف المقصود بالعموم عند الليبراليين عليه ببساطة العودة لمشاهدة فيلم ( سيدتي الجميلة ) الذي قام بالبطولة فيه كل من الممثلة أدوري هيبورن وريكس هاريسون سوف يعرف أن العموم هم قوم شعث غبر كانوا يتسكعون في شوارع لندن، ولا ادري هل كان السيد ممثل الإتحاد الأفريقي في السودان عندما تحدث عن أكبر عدد بقصد ذلك ؟ ، في حالة الديمقراطية ليس عدد الأحزاب التي سوف توقع على الإعلان السياسي هو الذي يحدد الوزن ولكن المقصود هو الوزن والثقل الجماهيري الحقيقي لتك الأحزاب بين عموم الناس، ولعل السؤال الذي يفرض نفسه هنا كيف تميز الألية الثلاثية أو اللجنة الرباعية اللتان تقومان بالتسهيل بين الفرقاء بين وزن اكثر من أربعين مكونا وحزباً بمسميات مشتركة في بعض الأحيان بسبب الانشقاقات ؟، ولعلني هنا على سبيل المثال في الحزب الاتحادي الديمقراطي هناك الحزب الاتحادي بقيادة جعفر الميرغني( أصحاب مليونيه المطار) وهناك تجمع الاتحاديين، والاتحادي الموحد ،والوطني الاتحادي ، والاتحادي الديمقراطي بقيادة صديق الهندي ، وقياساً على ذلك حزب الأمة و هناك حركات مسلحة منقسمة تزيد الأمر تعقيداً ، باختصار كيف سوف يميز السيد بلعيد بين الحزب الحقيقي وأحزاب ( الفكة) المنشقة والتي ليس لها رصيد جماهير ولا يعرفها الناس إلا من خلال الفضائيات .
من أسباب فشل كل هؤلاء المبعوثين أنهم عندما يكلفون يقعون تحت تأثير القوى الأجنبية أكثر من ما يركزن جهدهم على معرفة الحقائق على الأرض والواقع الفعلي للقوى الفاعلة داخلها، كما أنه يتم اختيارهم وفقاً لبعض التوازنات في الأمم المتحدة التي تتحكم فيها الدول الخمسة الأعضاء في مجلس الأمن الدولي الذي هو عبارة عن نادي خاص للمصالح الدولية ، ولعل من اقرب الأمثلة حالة الانقسام حول الأزمة الليبية التي يتعامل فيها المبعوثين الدوليين إلى ليبيا في ظل وجود حكومتين كل منهما تحظى بدعم اطراف دولية عجز كل الموفدين الدوليين الذين تم ارسالهم في التعامل معها ، كما أن تمويل تلك البعثات الذي يأتي غالباً خصماً من ميزانية الدول الكبرى وهو في معظم الأحيان تقدمه الدول الغربية و يحدد نوعية وشخصية المبعوثين، وكلها عوامل تجعل من المشكلات المراد حلها مكان تنازع بين تلك الدول.
لا اظن ان هناك دولة قامت بكامل ارادتها دون مبرر التقدم بخطاب رسمي إلى الأمم المتحدة للتدخل في شئونها الداخلية بخلاف ما فعلته الحكومة السودانية عندما تقدمت إلى الأمم المتحدة بطلب إلى المنظمة الدولية التي تحتكر ارادتها خمسة دول تدير شئونها وتتصارع فيها وفقاً لمصالحها ـ ولعل صبية المدارس الثانوية في عالم اليوم يعرفون كيف تدار الشئون الدولية في مختلف مناطق العالم ، ولعله قد بات من المعلوم العجز والفشل الذي حاق بكل البعثات التي ترسل من قبل المنظمة الدولية أو المنظمات الإقليمية خاصة في القارة الأفريقية مثل الإتحاد الأفريقي أو المنظمة الحكومية للتنمية ( إيقاد)ـ والأخيرتين تقعان تحت تأثير القوى الدولية الفاعلة التي تمول وتدفع نفقات نشاطهما بدرجة كبيرة ، وبالتالي تؤثر على قراراتها في القارة الأفريقية التي تعاني دولها من التفت الداخلي، والصراعات المسلحة السياسية والقبلية والإثنية ،والضعف الاقتصادي وغير ذلك من المصاعب التي تضعها تحت رحمة الأقوياء.
من العراق إلى سوريا وليبيا واليمن وإثيوبيا والصومال ودول الساحل الساحل الأفريقي في وسط وغرب افريقيا يتجول المبعوثين الدوليين من المنظمة الدولية ومن بعض الدول الكبرى بحجة المساهمة في حللت مشاكل الصراعات والخلافات بين السياسيين المحليين في تلك الدول ، وبعضهم اصبحوا مقيمين داخل بعض الدول مثل السودان ، وحيث لا تسمح الظروف المحلية يقيمون في افخم الفنادق في الدولة المجاورة مثل ستيفاني وليامز الأميركية التي بعثت إلى ليبيا وكانت تستقر بين تونس والقاهرة بسبب الظروف الداخلية في ليبيا ، وفي كل هذه الدول التي تدخلت فيها البعثات الأممية كانت النتيجة صفراً، بل أن الأوضاع الداخلية تدهورت إلى الأسوأ ، بينما يتم بين كل فترة وأخرى تغيير المبعوثين إما بسبب الفشل أو بسبب أن المبعوث نفسه جمع ما يكفي من المال أو لأنه قد تعب من حجم المشاكل والضغوط التي يتعرض لها من القوى العظمي وتفتت القوى الداخلية .
هكذا وقع السودان بكامل ارادته في لعبة المصالح الدولية والإقليمية ـ ولعل أكثر ما يثير الانتباه ، هو لماذا لجأت حكومة حمدوك مثلاً إلى الأمم المتحدة التي لديها بند سادس وسابع يسمح بالتدخل الدولي الذي يهدد السيادة الوطنية في بعض الأوقات ، بدلاً من اللجوء إلى طلب المساعدة من الجامعة العربية ، قد يقول البعض أن الجامعة العربية لا تقدم ولا تؤخر ، واعتقد أن هذا القول خاطئ وعلى كل هو افضل بكثير من تدخل الأمم المتحدة والمبعوثين الذين ثبت بالتجربة الحية أمامنا فشلهم الذريع ، على الأقل أن الجامعة العربية تربطنا مع دولها مصالح الجوار والعلاقات الاقتصادية الثقافية القوية والوجود السوداني المنتشر في كل دولها بأرقام تعد بالملايين، كما أن الحساسيات التي كانت موجودة أيام مشكلة الجنوب قد زالت ، و يحسب للجامعة العربية نجاحها في تخطي أكبر أزمتين مر بها العالم العربي من خلال مؤتمر اللات الثلاثة بالخرطوم بعد حرب 1967، وأزمة أيلول بين الأردن والفلسطينيين التي تم حلها من خلال قمة القاهرة عام 1970.
الأزمة السودانية تدار الان بتدخل بعض الفاعلين الإقليمين والدوليين، ولكن كيف سوف تتعامل القوى السياسية السودانية بعد عودة الميرغني التي جاءت بالفاعل القديم الجديد الأكثر تأثيراً في الأوضاع السودانية منذ ما قبل الاستقلال وفقاً لنظرية المجال الحيوي.

إنضم الى مجموعتنا على الواتس آب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى