أعمدة

مصطفى ابوالعزائم يكتب في (*بُعْدٌ .. و .. مسَافَة).. الجوار الآمن .. في عهد القذافي ..!

قبل أيام كتبت مقالاً بعنوان « من دفتر أحوال الصراع الدموي على السلطة» وقصدنا صراع السّلطة في السودان ، وجئنا بنموذج أحداث يوليو 1976 م ، وهي أول محاولة لتغيير نظام الحكم في الخرطوم ، من الخارج ، وكانت الأحداث قد بدأت فجر الجمعة الثاني من يوليو من ذلك العام ، لحظة وصول الرئيس جعفر محمد نميري _ رحمه الله _ من فرنسا بعد جولة شملت الولايات المتحدة الأمريكية ، وفرنسا ، إذ تمت مهاجمة المطار ، وعدد من معسكرات الجيش في المدن الثلاث ، والكباري الرابطة بينها ، والإذاعة السودانية والتلفزيون ودار الهاتف ، ومقار سكنى عدد من القيادات في مختلف الأجهزة .
تلك العملية الجريئة قادها المرحوم محمد نور سعد ، لكن قبضة المهاجمين أو الإنقلابيين سرعان ما تراخت في اليوم التالي ، وحررت القوات المسلحة الإذاعة وكثير من المرافق من قبضة الغزاة ، أو كما وصفهم النائب الأول لرئيس الجمهورية آنذاك ، اللواء أركان حرب ، محمد الباقر أحمد _ رحمه الله _ عندما أدان العدوان ، وكشف تفاصيل العملية ، التي أسماها بعملية ( الغزو البربري الإرتزاقي ) التي صار إسمها رسمياً عملية المرتزقة ، وقد قادتها الجبهة الوطنية ، وهي تجمع أحزاب أخرجها النظام المايوي عن دائرة السلطة ، ومراكز إتخاذ القرار .
أشرنا إلى دور العقيد معمر القذافي _ رحمه الله _ في تغذية ذلك الحدث ، ودعمه للجيش الغازي ، ومدّه بكامل ما يحتاج إليه من متحركات ، ووقود ، وأسلحة متنوعة مختلفة بذخائرها ، وبذل ما بذل من مال لأجل إسقاط النظام المايوي ، وهذا هو ما وضع حدّاً للعلاقة بين النميري والقذافي ، بل إن الأخير ، أخذ يتبنى مواقف مكشوفة و تحريضية لإسقاط نظام مايو ، عندما سخّر إذاعة الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى ،كما كانت تسمى ، إلى بث رسائل بصوته تدعو رفاق النميري وزملاءه إلى مساندة الإنتفاضة الشعبية التي إنطلقت شرارتها أواخر مارس من العام 1985 م ، وظلت متقدة إلى لحظة الإعلان عن إنحياز القوات المسلحة السُّودانيّة لها ، واستخراج شهادة الوفاة الرسمية لنظام مايو .
كثير من الدول التي يربطها جوار وتداخل مع دول أخرى ، تعطي نفسها الحق في التدخّل في شأن جيرانها ، خدمة لمصالحها لا مصالح الجيران ولا مصلحة الإقليم ، وهكذا كان الحال بالنسبة للعقيد الراحل معمر القذافي ، الذي أزعم أنني أعرف بعض الشيء عنه ، من خلال إقامة إستمرت لأربع سنوات في ليبيا ، منها سنتان في مؤسسة القدس الإعلامية ، ومثلهما مستشاراً صحفياً لسفير السُّودان لدى ليبيا وقتها السفير الأستاذ عباس إبراهيم النور ،وهي فترة إمتدت من سبتمبر 1988 م وحتى أكتوبر من العام 1992 م ، عاصرت فيها أحداثاً كبيرة وكثيرة في ( جماهيرية العقيد ) وهي فترة حفلت بالكثير والكثير ، لكنها ستظل محفورةً في الذاكرة ، وقد أحببت ليبيا وشعبها ، لكنني كنت أعجب للسّلطة المطلقة التي كانت للعقيد معمر القدافي ، سلطة لم يكن يقف أمامها أحد ، وإن حاول ذلك أحدٌ ما في السرِّ أو العلن ، لكان مصيره مجهولاً ، أو كان مصيره الإختفاء دون أن يجرؤ أحد على السّؤال عنه .
العقيد معمر القذافي ، لم يكن يقبل إلّا بإسم (القائد) هذا على مستوى الداخل ، أما على مستوى القارة الأفريقية فهو ملك ملوك إفريقيا ، وكان ينتقي من الصفات والأسماء والألقاب ما يملأ الصفحات ، مع إستصغار للآخرين وعدم الإعتراف بهم أو بقدراتهم ، وهو شخصيّة غريبة الأطوار عصيّة على الفهم ، شاهدته كثيراً ، لكنني لم ألتق به إلا مرات قليلة ضمن لقاءات رسمية ، عندما أكون في رفقة رئيس الجمهورية السّابق أو أي من نوابه أو مساعديه ، ضمن الوفود الصحفية المرافقة لهم ، وقد رافقت العقيد القذافي نفسه مرة واحدة ضمن أكثر من مائة شخصية سودانية ، ومثلهم من كثير من أقطار القارة الأفريقية ، إلى العاصمة الأوغندية كمبالا ، لافتتاح أكبر مساجدها الذي تم تشييده على نفقة القذافي ، وحمل إسمه ( مسجد القذافي الوطني ) هدية لمسلمي أوغندا ، وبدأ البناء فيه عام 2006 م ليكتمل بعد عام ، وتم إفتتاحه ضمن الإحتفالات بذكرى المولد النبوي الشريف ،في العام 2007 م ،وهي الرحلة التي أشرنا إليها ، والتي جاءت بدعوة من مكتب الأخوة الليبي في الخرطوم ،نيابة عن القائد القذافي .
كان القذافي حكاية ، بل حكايات مجتمعة متنوعة ومتقاطعة ومتداخلة ، غداً نحكي عنه بعض ما عرفنا ، فقد كانت أحلامه هي كوابيس لغيره ، وطموحاته هي تهديدات لزعماء وأقطار أخرى ، ونستطيع القول بأن جوار القذافي لم يكن آمناً على الإطلاق ، فالرجل هوائي ، متقلب المزاج ، لا تستطيع معرفة أفعاله أو توقعها ، ولا معرفة ردود أفعاله أيضاً .

Email : sagraljidyan@gmail.com

إنضم الى مجموعتنا على الواتس آب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى