أعمدة

(خواطر مهاجر) .. رحلة العودة الى الوطن فبراير. 2023 غانم عثمان آدم – كندا (٤)

الحلقة الرابعة

قضيت الليلة الاولى بمدينة فيصل بالقاهرة و صحوت على اصوات الآذان من مختلف المساجد الشئ الذي لم آلفه في كندا.

ذهبت لصلاة الصبح في مسجد مجاور. الكل يلبس ملابس شتوية واقية وانا اتصبب عرقا في ذلك الصباح والقوم ينظرون اٍلي شذرا و لا يعلمون انني اعيش في ثلاجة تسمى كندا. وعندما بدأ الامام الصلاة اطال في القراءة حتى حسبت انه سيقرأ القرآن كله؛ و الطريف في الامر انه مر بآية بها سجدة وسجدنا جميعا، وعندما رفعنا من السجود حسبت اننا بصدد انهاء الركعة الاولى، الا ان الامام واصل القراءة، وبعد قراءة طويلة اتممنا الركعة الاولى، وحسبت ان الركعة الثانية ستكون اقصر من الاولى لكن ذلك لم يحدث واسترسل الامام في القراءة. على الرغم من طول الصلاة الا انني وجدت نفسي خاشعا خشوعا لم اعهده في مساجد كندا.

اشرقت الارض بنور ربها، وبعد نومة عميقة،بسبب فارق التوقيت بين مصر وكندا، خرجت الى الشارع العام اتنسم اجواء القاهرة في هذا الصباح و أجتر ذكريات الصبا. هذه الأبراج السكنية الشاهقة متقاربة تماما والشارع مكتظ بكل انواع البشر. سلكت الطريق الى الشارع الرئيسي اتوجس خيفة وتحذيرات وزارة الخارجية الكندية للمسافرين الي مصر من اللصوص ترن في اذني، وفي كل مرة اتحسس جيوبي التي تحتوي على اوراقي الثبوتية و هاتفي خوفا من السرقة. وفي الوقت نفسه يملؤني الشوق والحنين لاسترجاع ذكريات الصبا والشباب في الاحياء الشعبية المصرية، وعندما نظرت الى اعلا رأيت ملابس الغسيل مشرورة على البلكونات، ودفعني الفضول للتحدث مع بواب العمارة. علمت انه يعرفني حيث ان البوابين يعرفون كل شاردة وواردة عن البناية. سألت البواب عن تلك السلة التي كانت تنزلها السيدات بحبل من اعلا البناية لشراء الخضروات والفاكهة من الباعة المتجولين. ذكر لي ان الحكومة منعت الباعة المتجولين من الدخول في الشوارع الفرعية. عندما كنا في بولاق الكرور كان مشهدا مسليا، خاصة عندما تفاصل السيدة بائع الخضار في السعر. ولا انسي المشادات الكلامية بين الجارات وهن يتبادلن الشتائم من اعلا البلكونات و يتصايحن بأعلا الاصوات.

بحذر شديد واصلت السير الى الشارع الرئيسي وقد علمت ان اسمه شارع العشرين. على جانبي الطريق آلاف المحال التجارية وقد كتبت اللافتات الملونة بعناية لجذب الزبائن، والأبراج الشاهقة على مد البصر. شعرت بمتعة لا تضاهيها متعة و كأنني اتابع فيلما سينمائيا بدأ للتو. باعة متجولون فيهم الصغير والكبير بأزياء مختلفة منها الافرنجي والصعيدي وملابس اهل اليمن والزي السوداني، وعربات مليئة بالفواكه والخضروات تجرها الخيل والدواب، ونظرة ملفتة لكثرة النساء المحجبات على غير العادة، ولا ادري ماذا سيكون رد “قاسم أمين ” اذا قام من قبره، حيث انه فرغ نفسه لمحاربة الحجاب قبل مائة عام.

اكثر ما لفت نظري الكلاب والقطط الضالة وهي تتجول بين الناس و لا احد يلقي لها بالا ولا هي تلقي بالا لأحد، و هنا تذكرت الآية الكريمة “وما من دابة في الارض الا على الله رزقها”. وقد وقع نظري على كلبة تحت احد السيارت المهجورة وهي ترضع صغارها وقلت في نفسي ” سبحان الله الذي خلق الموت والحياة”. تذكرت في هذا الخصوص الكلاب والقطط في كندا والتي يتم تدليلها اكثر من الإنسان، ولو اهمل احد قطته او كلبه فمصيره السجن والغرامة، وما زلت اذكر زميل عمل لي تم حبسه لستة اشهر وقد كانت تهمته القسوة على الحيوان animal cruelty وذلك لأنه ترك كلبه في شقته وسافر؛ سمع الجيران بكاء الكلب و نباحه وابلغوا البوليس.

ومن مظاهر تدليل الكلاب والقطط في كندا ان تم تخصيص رفوف لطعام الكلاب والقطط في اماكن التسوق الكبيرة . اذكر انني وفي احد أماكن التسوق أن كانت امامي في الصف سيدة تحمل سلة مليئة بأغذية الكلاب والقطط ودفعت نظير ذلك مالا كثيرا. وامرأة اخرى تم ضبطها وهي تسرق طعاما للقطط وتمت محاكمتها بدفع غرامة مقدارها الف دولار. هنا، في مصر، الكلاب والقطط تقتات على اكوام القمامة وتجعل السيارات المهجورة والأزقة الضيقة مسكنا لها. فعلى الرغم من هذه العيشة التعيسة الا انها تتوالد وتعيش حياتها بالطول والعرض، ولم نسمع ان القطط والكلاب قد قل عددها او انقرضت بسبب الاهمال. و من طريف ما يقال في هذا الخصوص ان نائبة برلمانية مصرية اقترحت تصدير الكلاب الضالة الى الدول التي تأكل شعوبها الكلاب، وقد تصدى لها لاعب الكرة الأوروبية محمد صلاح بحجة ان هذا يتنافى مع حقوق الحيوان.

اثناء سيري قابلت سودانيا بجلباب وعمامة وملفحة، وفجأة تمثلت فيه وطني السودان الذي اغيب عنه لسبع سنوات واشتاق اليه. قصدته والقيت عليه التحية بحرارة واندفاع، الا انه رد علي ببرود و حدجني بنظرة ملؤها الشك ، حيث تذكرت مقولة احد الاصدقاء وهو يؤكد حالات النصب والاحتيال التي يقوم بها بعض السودانيين بالقاهرة والتي جعلت الثقة معدومة بينهم. وحتى اطمئنه ذكرت له انني غريب عن هذه الديار وفي زيارة عابرة وأود التعرف اكثر على هذا الشارع الواسع. اطمأن قليلا وانفتح معي في الحديث حيث علمت انه يعيش في منطقة فيصل منذ عامين وانه قد باع املاكه في السودان واشترى شقة له ولأسرته حيث ان زوجته مصابة بالفشل الكلوي، وهذا سبب مجيئهم الى مصر. بعد قليل انضم الينا شابان علمت انهما ابنيه؛ لهما جدائل من الشعر المبروم تشبهاً بالفنان الجامايكي “بوب مارلي “ولا يعلمان ان هذه الطريقة من برم الشعر تتبع الى ديانة “الراستفاريا” وهي ديانة ضالة يعبد فيها الجامايكيين الامبراطور هيلا سلاسي، ولقد عجبت للبرهان،رئيس السودان، في احد خطاباته وهو يمجد ” الراستات”، ولا ادري ان كان يعلم ان “الراستات” تشير الى ديانة “الراستفاريا” الضالة.

ودعتهما و واصلت السير في شارع العشرين ورائحة الشواء تفوح من المطاعم ورأيت ان شهيتي مفتوحة لأكل ساندوتش فول وطعمية الا ان معدتي لا تقوى على ذلك كما في سابق الازمان، فلو اطلقت لشهيتي العنان وأكلت تلك السندوتشات الشهية فإنني حتما سأصاب بآلام معدة ربما تعطل سفري. اذكر اننا نزلنا مصر ايام الصبا في الثمانينات من القرن الماضي، وفي منطقة العتبة تحلقنا حول صاحب سندوتشات فول وطعمية وبدأنا الاكل حتى قضينا على نصف ما له من ساندوتشات والبائع مسرور يردد كلمة ” بالهناء والشفاء”. ليت معدتي بذات القوة لأكرر نفس ما حدث في الثمانينات.
جلست على مقهي يطل على الشارع العام و موسيقى وغناء عبد الحليم حافظ القديمة تملأ المكان، وتذكرت في هذا الخصوص الكاتب الكبير نجيب محفوظ والذي نسج كل رواياته في حواري مصر، فكانت هناك السكرية وبين القصرين والجمالية وكلها احياء قمت بزيارتها في الماضي . جلست هناك اراقب المارة و اتمثل فيمن ارى شخصيات روايات نجيب محفوظ مثل سيد عبد الجواد واولاده وام حنفي وحسن الفولي.
هذا الشارع يعج بالركشات التي يقوم بقيادتها شباب صغار في السن. ومن المضحك ان هنالك ركشات تجر مقطورة طويلة مليئة بالبضائع. وددت لو اجلس لساعات طويلة في هذا الشارع فالمناظر التي امامي لا تملها العين.

إنضم الى مجموعتنا على الواتس آب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى