أعمدة

جمال عنقرة يكتب في (تأملات) .. السودان .. المؤامرة الدولية، وغياب الرؤية الوطنية “١”

لست من الذين يعولون كثيرا علي نظرية المؤامرة، إلا أن المتتبع لمجريات الأحداث في السودان، يجد أن المؤامرة علي هذا البلد قديمة ومتجددة، ولو أن الموضوع بحث عميق، أو دراسة أكاديمية لعدنا إلى إسقاط الدولة المهدية قبل أكثر من مائة وعشرين عاما، وتأتي بعد ذلك محطات كثيرة، تمثل بؤرا لضرب هذا البلد، وغرس بذور الفتن والصراع بين مكوناته الجهوية والقبلية والدينية والسياسية، وغيرها، وقد تتراءى للبعض علي إثر ذلك مشاهد عدة، منها قانون المناطق المقفولة، وتمرد حامية توريت في أغسطس ١٩٥٥مد والكتاب الأسود، ومثلث حمدي، واتفاقية نيفاشا، وغيرها، إلى أن نصل إلى ثورة ديسمبر الأخيرة، والتي نركز عليها في هذا المقال المفتوح، لأنها تمثل حصاد وجماع كل المؤامرات السابقة، وهي، مثلها مثل ما سبق من مؤامرات يستغل الجانب الخارجي فيها مكونات داخلية، بعضها تخدم أغراضه وأهدافه بسذاجة، وبعضها بغير وعي، وبعض يقبض الثمن.
ولا أعني بالطبع أن ثورة ديسمبر كلها كانت مؤامرة، ولكن المؤامرة ظلت حاضرة فيها منذ انطلاق شرارتها الأولي، وحتى مبادرة المبعوث الأممي السيد فولكر بيرتس، الذي يسعي جاهدا إلى إعادة البلاد إلى طريق الاستلاب، ويعينه علي ذلك بعض بني وطني، ويتعامل كثيرون من المدركين للعبة بسذاجة وغباء.
معلوم أن مظاهرات ثورة ديسمبر انطلقت عفوية، وكانت شعاراتها الأساسية مطلبية، إلا أن المكون الدولي الذي كان يقرأ المشهد السياسي جيدا، بل ساهم في رسمه، كانت له خطط واضحة، وأول ما فعله صناعة ايقونات للثورة تشبه الفقاقيع، تتضخم بسرعة، وبذات السرعة تنفجر وتتلاشي، ودون ذكر أسماء تجد ذلك ينطبق علي كثيرين من الذين علا صوتهم أيام الثورة، ثم تلاشوا سريعا، وليس علي مستوي الافراد فقط، ولكن حتى الكيانات والاجسام السياسية التي طغت علي المشهد الثوري، لم تكن لها أعماق ولا جذور في المشهد السياسي السوداني.
إستطاع المحركون للأحداث في السودان من الخارج استثمار تناقضات وطموحات قيادات نظام الإنقاذ، لا سيما القيادات العسكرية، وكانت البداية في ذلك والتمهيد له، تحريك المظاهرات نحو القيادة العامة للقوات المسلحة، وهم يعلمون رمزية الجيش للسودانيين عموما، ثم رموا بالهتاف الطعم “شعب واحد جيش واحد” ثم بدأ بعد ذلك حراك القيادات العسكرية مع بعض القيادات السياسية، وأفضي هذا الحراك لتحقيق الضربة الأولى، عبر البيان الذي أصدره وزير الدفاع رئيس اللجنة الأمنية الفريق أول ركن عوض ابنعوف، وازاح به المشير البشير من الرئاسة، ولم يكن مطلوبا منه أكثر من ذلك في ذاك اليوم، فبعد اربع وعشرين ساعة فقط، أزاحوه وبدأت السيطرة الدولية علي المشهد بالادوات والاليات المحلية والإقليمية، واعتمدوا علي الحشد الشعبي الذي صنعوه، ورعوه في محيط القيادة العامة للقوات المسلحة كرت ضغط لتحقيق المطالب.
ولاحكام القبضة علي المشهد، اضعفوا أولا دور القوي الوطنية الحزبية العريقة والعتيقة، واختاروا من قيادات هذه الأحزاب من يمكن السيطرة عليهم، وتوجيههم، وفعلوا ذات الشئ مع المؤسسة العسكرية، وكما هو معلوم فإنهم بعد إزاحة الفريق أول عوض ابنعوف، ازاحوا أغلب القيادات العسكرية المؤثرة، ولم يكتفوا بتقديم قائد قوات الدعم السريع الفريق أول حميدتي نائبا لرئيس المجلس العسكري، بل زادوا علي ذلك بأن اسندوا إليه ملف الحوار مع قوي الثورة المدنية، وليس طعنا في أهلية الرجل، ولكنه قطعا لا يمثل المؤسسة العسكرية التقليدية، وهذا أمر كان مقصودا، وقد نعود في مقال قادم بإذن الله تعالي للحديث عن المؤامرة الدولية من خلال المؤامرة علي الجيش السوداني، ولمزيد من احكام السيطرة عزلوا مصر الدولة الأقرب للسودان، والأكثر معرفة بتفاصيل قضاياه، وهذا موضوع نعود له أيضا بتفصيل أكثر، وفي ظل هذه الظروف المصنوعة بعناية جاءت الوثيقة الدستورية المعيبة التي زادت من تأزيم المشهد في السودان بعد سقوط نظام الإنقاذ.
نواصل بإذن الله تعالي

إنضم الى مجموعتنا على الواتس آب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى