أعمدة

(تأملات) .. جمال عنقرة .. السر قدور.. نحو نصف قرن من الوصل والتواصل

السودان كله افتقد عبقري زمانه الفنان الشامل، والمثقف الموسوعي، والموثق الدقيق، والمفكر الحصيف، والوطني الغيور، ثاقب النظر، بعيد الرؤية، حكيم الرأي، أبا العباس حبيب الناس الأستاذ السر أحمد قدور، الذي تمدد في أوصال شعب السودان، وسري في اوردته وشرايينه مسري الدم في العروق، ذلك أنه كما قال شاعرنا الحبيب الدكتور محمد بادي في مرثية شاعر النيل والنخيل سماعين ود حسن، “اتبللت من الموية بين السعفة والبلال، وعرقك ضرب في ترابنا حت ما شال” إلا أن فقدي لإبن عمي وصديقي وأستاذي أبي العباس، أكبر من فقدهم جميعا، “جرحا ليهم صاب الريش وجرحا لي مسافر في النسيج الحي” نسأل الله له الرحمة والمغفرة، وأن يسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، ولا نقول إلا ما يرضي الله، إنا لله وإنا إليه راجعون.
صلتي بالراحل المقيم تعود إلى نحو نصف قرن من الزمان، حيث التقيته أول مرة في سبعينيات القرن الماضي عندما ذهبت إلى مصر لدراسة الجامعة، وكان قد سبقنا إلى هناك ببضعة أعوام بعد أن ضاق عليه المقام في وطنه عقب سقوط حكومة الديمقراطية الثانية علي يد مجموعة الضباط الأحرار المسنودة بالحزب الشيوعي السوداني في الخامس والعشرين من شهر مايو عام ١٩٦٩م، ثم تواصلت صلتي معه وتعمقت، وتمددت طولا وعرضا، حتى صار الناس كلهم يعلمون مقامي منه، ومقامه عندي، وظللت علي تواصل معه حتى اللحظات الأخيرة من حياته، التي أعطي فيها بلا حدود، حتى أنه لم يكد يستبق شيئا، وذهب إلى ربه راضيا مرضيا، نسأل الله أن يدخله عظيم جناته، فلقد كان يرحمه الله من عباده المحبين، وقبل أيام محدودة من وفاته وجدت رسالة من ابنته الحبيبة زينب تقول “عمو جمال أبو العباس عايز يتكلم معاك” فاتصلت عليها وكلمته، رغم أنه كان محظورا من الكلام، وكانت زينب تقف علي هذا الحظر، لكنها لم تقو علي مقاومة إصراره الحديث معي، وكلفني أن انقل عنه خبر وصوله المرتقب لتقديم النسخة الجديدة من برنامجه الأشهر بين كل برامج الفضائيات السودانية “أغاني وأغاني” وقبل وفاته بساعة وجدت رسالة من مرافقه الأمين الهميم منتصر تقول “عم جمال .. أبو العباس تعبان.. أدعو ليه” فسالته عن حاله، فاخبرني أنه يخضع لتنفس صناعي بصعوبة بالغة، وبعد نحو ساعة استيقظت زوجتي مشاعر “أم عمر” فزعة وأخبرتني أنها سمعت صوت أبي العباسي ينادي “يا جمال .. يا جمال .. يا جمال” بذات الطريقة التي كان يناديني بها في بيت سفير السودان في مصر صديقنا السفير المجتهد الموفق السفير محمد الياس يوم أن أقام مائدة علي شرف وفد بحثي سوداني يزور القاهرة، فطلب بعض أعضاء الوفد التقاط صور تذكارية معه، لكنه أصر – يرحمه الله – الا تؤخذ الصور حتى وصولي، فلما فتحت النت وجدت خبر وفاته الصادم المفجع، نسأل الله له حسن القبول، ويجعل البركة في بناته، ويعجل بشفاء والدتهن الكامل.
ولانني لم انقطع عن مصر بعد التخرج، ظللت متواصلا مع أستاذنا الجليل بلا انقطاع، وعبره امتدت صلتي بصاحبه الخالص، السياسي والاديب، الزاهد الصادق المتجرد المناضل الوطني الغيور الراحل المقيم الشريف زين العابدين الهندي، وصلتنا بآل الشريف الهندي راسخة وراكزة، موروثة ومتوارثة، وفي إقامتي الثالثة في مصر مطلع تسعينيات القرن الماضي، جمعنا مكتب واحد مع الأستاذ السر قدور، وملك التوثيق والتحقيق الصحفي الامدرماني المخضرم الأستاذ محمد فرح عبد الكريم ناشر صحيفة المنتخب الرياضية، وكان قد سافر إلى مصر لإعادة إصدارها من القاهرة لتلبية طلبات قرائها في دول المهجر العربي، وفي تلك الفترة أكتشفت بعض الجوانب العبقرية في شخصية الأستاذ الجليل “أبو العباس” فدعوته لتدوين بعض أفكاره النيرة في كتاب تعهدت بطباعته، فدفع لي بجملة مقالات كتبها في ازمان متفرقة، وفي صحف عدة، تولي جمعها وتصنيفها شقيقه الأصغر العالم الجليل الفريق شرطة البروفيسور عمر أحمد قدور، واختار لها عنوانا “أوراق سودانية” ورغم صغر حجمها لكنها تجلت فيها عبقرية السر قدور، فقدمت لها وطبعتها ونشرتها ووزعتها في مصر، ونفذت كلها، وكان ذلك عام ١٩٩١م، ومنذ نحو خمسة أعوام أو يزيد نسعي للحصول علي نسخة لإعادة طباعتها، ليعرف هذا الجيل وجوها لا يعرفها عن هذا الرجل العبقري المتفرد، ولقد وعدني يوم العزاء الذي أقامته قناة النيل الأزرق لفقيدنا العظيم، وعدني أخي البروفيسور عمر قدور بالبحث عن نسخة من هذا السفر القيم لنعيد طباعتها بإذن الله تعالي.
ومن إلهام كتاب أوراق سودانية أني عندما طلب مني العبقري المصري الدكتور آحمد بهجت إعداد وتقديم برنامج تلفزيوني عن السودان في قناته “دريم” بديلا لبرنامج ميلاد حنا الذي توقف قبل نحو خمسة عشر عاما، اخترت لهذا البرنامج اسما “أوراق سودانية” وقبل تقديم البرنامج اضطرتني بعض المتغيرات إلى العودة إلى السودان، فلما فكرت في تقديم برنامج تلفزيوني في قناة الخرطوم، اخترت له اسم “أوراق” من اسم أوراق السر قدور السودانية، ولعلي ذكرت هذه القصة في أول حلقة للبرنامج وكانت مع الإمام الراحل السيد الصادق المهدي له الرحمة والمغفرة.
وطوال العقود الثلاثة الأخيرة، وقبلها ببضعة أعوام ظل اتصالنا وتواصلنا مع أبي العباس شبه يومي، بوسائل التواصل والاتصال المختلفة، وعندما أصل مصر لا يرضي أن اتصل به اليوم الثاني لوصولي، وعندما يأتي إلى السودان سواء لتسجيل حلقات برنامجه أغاني وأغاني، أو لأي أمر آخر، أكون أول من يعرف بمقدمه، وآخر من يودعه، وسكنه في شارع ١٥ جوار وكالة صديقنا الحبيب علي إدريس “الأوائل” تجعل جل وقتنا معه، واعتدنا في السنوات الأخيرة أن نسجل معه حلقات خاصة لقناة الخرطوم الفضائية تبث خلال أيام عيد الفطر المبارك، فسجلت معه حلقات عن مسيرته في الصحافة والإعلام، وفي المسرح، وفي مصر، ثم سجلنا حلقات معه خاصة لبرنامج “أغنيات وذكريات” وكنت قد أنتجت حلقة عنه في برنامج “بروفايل” الذي قدمته الزميلة أمل أبو القاسم في قناة الخرطوم، وكنا قد رتبنا معه لتقديم عمل باسم “زمان السر قدور” نوثق فيه لمسيرته العامة، وهو الذي قد وثق لناس كثر.
أكثر ما وجدته عند أبي العباس ويتميز به عن كثيرين من خلق الله، أنه لا ينشغل بصغائر الأمور، ودائما ينظر إلى الآفاق البعيدة، لذلك يري ما لا يراه غيره، ويشهد بالحق ولو علي نفسه، فعلي الرغم من أن أكثر ما ميز السر قدور شاعريته الغنائية، لكنه لا يجد أي حرج في القول بأن الشعر هو أضعف عناصر الأغنية، وأن القصيدة مهما حملت من عناصر القوة والجمال فهي لا تساوي شيئآ إذا لم تغن، ويضرب لذلك مثالا، أن ديوان أحمد رامي الذي يحوي عشرات الأغنيات يباع بخمسة جنيهات فقط، وأن أي قصيدة من قصائد هذا الديوان من التي تغنت بها سيدة الغناء العربي السيدة أم كلثوم تباع بخمسة جنيهات وقد تزيد، لذلك هو يتعامل مع الفنانين الذين تغنوا باغنياته بطريقة مختلفة، ولعله اقتدي في ذلك بدرس قدمه عبقري الفن السوداني الفنان إبراهيم الكاشف لأحد الشعراء، ولقد حكي عن الكاشف أن شاعرا كتب له أغنية لاقت نجاحا باهرا، وكان الكاشف قد أخذها منه، وأعطاه مقابلا ماديا مجزيا جدا، وبعد فترة جاء الشاعر إلى الفنان الكاشف يطلب منه مالا اضافيا بسبب نجاح الأغنية، فقال له الكاشف ” أنا نجار بعمل سراير، الزباين بدوني قروش وبشيلوا سرايرهم، فهل يعقل كل ما ينوم الرجل في سريره، ويجد متعة أطلب منه مقابلا ماديا اضافيا نظير هذه المتعة، وأذكر مرة اتاه قريب له، وقال له “كمال ترباس غني من أغنية يا ريت، كلمه يديك زيادة” فقال له السر “يا ريت دي أنا قاعد أزبلها، ما خلاص ده جهده، وهو أولي به” وفي مرة أخري اخبره آخر أن الفنان محمود عبد العزيز يتغني بأغنية “سايق دلاله علي” بدون ما يستأذنه، وقدمها بصورة رائعة، والناس صاروا يطلبونها منه، فاوصاه هذا بأن يبعث له خطاب وقف الأغنية إلى حين الإتفاق معه، فرفض الأستاذ السر ذلك، وقال له “ما دام أداها بصورة رائعة، والناس مبسوطين منها، اوقفها ليه؟” فلما سمع الحوت بهذا الكلام جاء إلى الأستاذ السر، وأعطاه مبلغا ضخما من المال، ثمنا للموقف قبل أن يكون ثمنا للأغنية.
السر قدور رجل مواقف، وكل أغنية من أغنياته تحكي موقفا عظيما، ومن المواقف النبيلة التي أنتجت أغنية خالدة، أن اللواء طلعت فريد جمع كبار شعراء الأغنية السودانية والفنانين عام ١٩٥٩م، للتفاكر حول العيد الأول لثورة نوفمبر عام ١٩٥٨م، وحضر معهم من الشباب الشاعران محمد علي أبو قطاطي، والسر أحمد قدور، فطلب منهم طلعت فريد عمل أغنيات واناشيد للثورة في عيدها الأول، وبينما سكت الجميع، وقف السر وقال له “بدل ما نغني للثورة ما أحسن نغني للوطن” فلم يقبل كلامه السيد طلعت فريد وأمره بالجلوس، وبعد الإجتماع أخذه الكاشف ليعرفه بالسيد أحمد خير الذي كان حاضرا اللقاء، فقال أحمد خير للسر “عمك طلعت فريد ما قاصد يمنعكم من الغناء للوطن، لكنه لا يريد للجهود أن تتشتت” وأمره بأن يكتب أغنيته الوطنية، فقدم السر أغنية أرض الخير أفريقيا مكاني، زمن النور والعزة زماني، وكان السر قد شرع في كتابة هذه الأغنية عندما رفض جده الذهاب إلى الحج احتجاجا علي وثيقة السفر للحج المكتوب عليها “الجنسية: سوداني”- ولم يوافق علي السفر حتى تم تعديل الوثيقة وصار مكتوبا عليها “الجنسية: من السودان”
وعندما اشتد تطاول بعض أدعياء الثورة علي جيش الوطن، في عهد ثورة ديسمبر المجيدة، كتب السر قدور أغنية للجيش السوداني عنوانها “جيش الوطن” وارسلها لي بصوته، وسعيت لإنتاجها وتقديمها في عيد الجيش قبل الماضي، واعددنا لذلك عدته، إلا أن ضيق الزمن لم يمكننا من ذاك، وهذا عهد قطعته علي نفسي لتقديمها قريبا بإذن الله تعالي.
الرحمة والمغفرة لحبيب الناس أبي العباس الراحل المقيم السر أحمد قدور، وعزاء خاص جدا لأخي الحبيب العمدة بكري النعيم، توأم روح أبي العباس، ولنا مع العمدة وأبي العباس والشريف زين العابدين الهندي، وبعض الخواص ذكريات وذكريات، نسأل الله أن تجد حظها في “زمان السر قدور”

إنضم الى مجموعتنا على الواتس آب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى