أعمدة

*مصطفى ابوالعزائم* يكتب في (بُعْدٌ .. و .. مسَافَة) .. أسرار الصراع السّياسي في السّودان …*

الثاني من يوليو 1976م ، تاريخ سالت فيه دماء سودانية كثيرة ، ولا نحسبنّ أن الأرض سترتوي من دماء البشر منذ أن سالت فيها دماء أحد ابني “آدم” الأولين من أمنا “حواء” عندما قتل “قابيل” أخاه “هابيل”، وقد سجّلتها الكتب المقدسة والتاريخ كأول حادثة قتل بشرية تقع على الأرض.
نعود لتاريخنا المعني ، الثاني من يوليو 1976م ، الذي تمرّ ذكراه كُلّ عامٍ ، مثلها مثل أي ذكرى عادية – وما هي كذلك – ليسجّل التاريخ أحد أبرز عيوبنا المجتمعية وهو أننا لا نقف كثيراً عند الذكرى والعبرة ، لذلك تتكرر الوقائع في بلادنا ، وتتطابق أو تكاد ، فنقع في ذات الشراك والفخاخ التي وقع فيها الأولون من بني جلدتنا.. وفي ذلك التاريخ الذي صادف يوم جمعة ، ومع إنطلاقة آذان الفجر من مآذن العاصمة السودانية بمدنها وامتداداتها المختلفة ، إنطلقت أصوات الرصاص من أنحاء متفرقة، وخرج الناس من بيوتهم ، بعضهم في كامل تأهبه لأداء صلاة الفجر ، وبعضهم يغالب النعاس والخوف معاً ، لكن الجميع كانوا يتساءلون: (هل عاد الرئيس “نميري” إلى البلاد؟).. ولم يكن هناك من يملك الإجابة على هذا السؤال في ظل الفوضى والخوف والهلع بعد أن رحل الأمن والطمأنينة مع زخّات الرصاص المتتابعة.
كان الرئيس “نميري” – رحمه الله – غائباً عن البلاد في رحلة خارجية إلى كل من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، كان من المقرر عودته في الخامس من فجر الجمعة الثاني من يوليو 1976 م، وأخذ المواطنون وذهلوا عندما شاهدوا عدداً من السّيارات محملة بالأسلحة والذخائر وعلى ظهورها شباب بسحنات غريبة بأزيائهم المدنية وهم يحملون أسلحة لم يألفها الناس من قبل.. ولم يستطع أحد أن يحدّد هوية أولئك الشباب، وإن أكد الجميع وتأكد لهم إن الذي يجري هو محاولة إنقلابية للإستيلاء على السّلطة وإزاحة الرئيس “جعفر نميري” من مقعد الحكم..!
ولعل ما دفع صاحبكم إلى فتح هذا الملف من جديد الذي وقع قبل ، وهو تدشين كتاب الأخ الكريم السيد “مبارك الفاضل المهدي” قبل فترة والموسوم ب(ماذا جرى؟ أسرار الصراع السياسي في السودان 1986- 2016م) ولم أتشرف بحضور حفل تدشينه ولم أطّلع عليه في حينه إذ أن موعد إستقبال المكتبات له لم يكن قد حان بعد .
ما علينا.. فقد إطّلعت على بعض مشتملات هذا السفر القيم من بعض الأفواه وقليل الكتابات ، وقد تضمّن عرضاً تفصيلياً للغزو العسكري الذي رتبت له وأعدته ونفذته الجبهة الوطنية بالتعاون مع نظام “القذافي” ودعمه الكامل وقاده العميد “محمد نور سعد” – رحمه الله – في يوم الجمعة الثاني من يوليو عام 1976م، وقد تضمّن مفاجآت في أسماء بعض المشاركين ، وهو ما دفع صاحبكم لأن يبحث في أرشيفه الخاص عن تلك الأحداث التي هزت العرش المايوي ، لكنها قطعت في نهاية الأمر دابر الإنقلابيين وأودت بكثير منهم إلى التهلكة وفي مقدمتهم العميد “محمد نور سعد”.
عثرت على كتيِّب صغير الحجم حمل عنواناً هو ما إخترناه لهذه المادة (مؤامرة الغزو الرجعي – الليبي للسودان) أعدّته لجنة الإعلام والتوجيه بالإتّحاد الإشتراكي السّوداني في أعقاب فشل الغزو والإستيلاء على السّلطة ، وأصدرته بعد أيام قليلة من تلك المحاولة ، تحديداً في أغسطس من ذلك العام ، لكن يبدو أن اللجنة إنكبّت إنكباباً مع كل أذرعها المساعدة في أجهزة الأمن والإستخبارات والصحافة لجمع تلك المادة الغنية والنادرة ، مع عكس الرأي السياسي للنظام في الحدث وتجريمه له.
قرأت هذا الكتيِّب الوثيقة عدة مرات ، وتساءلت عن الأسباب التي تجعل من ليبيا دائماً منصة تنطلق منها سيارات المعارضة لأي نظام حكم قائم في السودان، دون الاستفادة من درس الغزو المسلح في 1976م ، لتتكرر ذات الوقائع المتشابهة في محاولة غزو أم درمان التي قادها الدكتور “خليل إبراهيم” – رحمه الله – عام 2008 م ، ثم المحاولات المتعدّدة للهجوم على مدن وقرى سودانية وبعض مراكز تجمعات القوات المسلحة من قبل المتمردين ، وربما كانت محاولة الهجوم الاخيرة على نظام الإنقاذ التي جاءت من دولة جنوب السودان.. ودولة ليبيا خير شاهد على ما نقول.
صحيح أن كتاب (مؤامرة الغزو الرجعي الليبي للسودان) يحمل وجهة النظر المايوية الخالصة ، لكنه يوثق للأحداث كما هي من خلال يوميات الغزو ، منذ أن بدأت العملية التي أسماها النظام (هجوم المرتزقة) عند الخامسة صباح الجمعة الثاني من يوليو 1976م، لحظة وصول طائرة الرئيس “نميري” إلى مطار الخرطوم عائداً من فرنسا، وذلك من خلال الهجوم على المطار ومعسكرات القوات المسلحة ودار الإذاعة ودار الهاتف ومنازل كبار رجالات الدولة والمنشآت المختلفة بالعاصمة.
وفي الكتاب دلالة بليغة على وحدة السودان في ذلك الوقت ، عندما إنطلقت الإذاعة السودانية من (جوبا) وأذاعت بيانات حول الأحداث أصدرها السيد “أبيل ألير” نائب رئيس الجمهورية ، رئيس المجلس التنفيذي العالي للإقليم الجنوبي، و”بونا ملوال” وزير الثقافة والإعلام.
ليت صحافتنا وباحثينا إهتموا بالطرق على الأحداث وليت أجهزة إعلامنا المختلفة خاصة الإذاعات والفضائيات أعادت إلى الأذهان صورة تلك الأحداث وصوتها حتى لا ننسى وحتى تعرف الأجيال تاريخ الوطن الحقيقي بعيداً عن الزيف أو التعتيم المتعمد.

Email : sagraljidyan@gmail.com

إنضم الى مجموعتنا على الواتس آب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى