أعمدة

فنجان الصباح) احمد عبدالوهاب … السر قدور.. وقد جاء يوم شكره!!

برحيل العبقري صاحب المواهب المتعددة، والقدرات المتجددة( السر احمد قدور) تنهد سارية ضخمة، وينهار عمود رئيس من أعمدة (ركن السودان).. وتفقد القاهرة شيئا نادرا وإلى الابد..
القاهرة التي استهوته ثم سرقته منذ مطلع السبعين، والزمان أخضر والأيام مقبلة.. القاهرة الساحرة التي وصفها عبعضهم ب( قيامة) يومية مصغرة.. وكماوصفها ابن خلدون بأن؛ من لم يرها ( لم ير عز الاسلام).
وجد قدور فيها ضالته فطابت له الاقامة وسط، غابات من نخيل الابداع ، وجيوش من المشاهير، وجحفل لجب من الاساطين الكبار.. نجيب.. ومحمد نجيب والحكيم ومرسي جميل عزيز، والسنباطي والموجي، وعبد الوهاب وعبد الحليم، والتخت الشرقي والفرقة الماسية.. وعلي ومصطفي امين، والاخبار واحمد رجب، وانيس والهلال، ويوسف السباعي، واحسان عبد القدوس، وروز اليوسف وبهجت وآخر ساعة والاهرام، واحمد بهاء الدين، وبنت الشاطئ وأكتوبر، وبابا ضياء بيبرس، وخالد محمد خالد، وفتحي رضوان، وصافيناز كاظم والامام الشيخ عبد الحليم محمود، وامام الدعاة الشعراوي، ونوال السعداوي ونصر اكتوبر وزمان الانفتاح والصلح والتطبيع ، وصلاح عبد الصبور، وامل دنقل و(لا تصالح).. وثورة الحرامية، (بوصف السادات) ، والباطنية.. وليالي الحلمية،وأحمد فؤاد نجم، واحمد عدوية.. والزعيم، وشاهد ماشافش حاجة، والمنصة، والاسلامبولي.. وهلمجرا..
وسط كل هذا الهدير والماكينة الضخمة. وهذه القيامة المصغرة.. صنع قدور مدرسته، وركز خيمته.. ليكون أيقونة من أيقونات (وحدة) وادي النيل، كما حلم بها الأشقاء .. أو (التكامل) كما اشتهاه النميري، أو (ميثاق الأخوة ) كما تمناه الإمام الصادق..
صار( قدور) مثل الرواق السناري وأكبر ..
ومثل معاوية نور – في زمانه- وأكثر ..
ومثل علي البرير في دائرة عابدين وأشهر ..
ومثل (قرن شطة).. في المجنونة، واشطر..
لقدور اجتمعت اشراط النجاح، وتضافرت عوامل الشهرة..
فعدا الذاكرة المتوقدة، والموهبة والمتجددة، فعنده الحضور الدائم، والقلم السيال، والعطاء الكبير.. والعمر الطويل..
فهو مثل( التجاني) و(المجذوب) جمع بين الإكثار والاجادة ، والتجديد والمواكبة..
وبرحيل رموز الفن في الغناء والشعر والمسرح.. زرافات ووحدانا.. وتساقط كل الشجر الكبار.. أقفرت الساحة السودانية، وضربها الجفاف والتصحر، إلا من بقية قليلة عليلة وكليلة باتت بفعل السنين والفيافي والمنافي، تعيش ب (جاز المصافي).. في موازاة عاصفة مدارية من الطمبارة، والقونات، وفرق النكات والاعلانات، وفنانات أقرب مذهبا ونسبا للسلوكة، من الدلوكة.. واحتفت الساحة بمقلدين غير موهوبين، لم يسمعوا ب (ماشقيتك).. ولا( أذكريني ياحمامة، كلما شادن ترنم).. وتوقفت موهبتهم عند نحن (راجعين في المغيرب) ..
وسط هذا البؤس الابداعي، وانتفاضة جماعات النيقرز الفني.. تذكره القوم السر قدور.. تذكره قومه.. وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر..
فكان قدور لكثيرين مؤسسات او أفراد ، طوق نجاة حقيقي.. كمن يعثر على مورد ماء عذب في صيف قبقبة ، ورمال اوجرين وسموم العتمور. او كمن يجد زورق إنقاذ في غضبة القاش، وجنون الاتبراوي..
وهكذا جاء قدور .. وثلاثة ارباع عمره تنتمي إلى قرن مضى.. قرن فات شاعره قضى ، وجيله انقرض وفات.. وفنانه مات..
جاء قدور يحمل بضاعة تذكر أهل السودان بذياك الزمان الأخضر ..
أعاد الرجل إنتاج أكثر من حقبة، لها اجيال مخضرمة تتابع وتتذكر و تحن إليها حنين الفرود.. واجيال حديثة سرها أن ترى رجلا من زمان (الرق) وعصر كرومة والكاشف.. والفلاتية ومهلة العبادية.. وصلاح محمد صالح وحقيبة الفن ، والمبارك ابراهيم وعلي ابو الجود والعبادي وبطران اولاد الموردة.. واقلام والوان.. لسان العرب واحمد قباني. وبرعي وابو داود وامير العود..
كأنما منحت (النيل الازرق) السر قدور (كبسولة) زمنية فأبحر في كل عميق وعتيق من محمد ود الفكي الي عتيق.. وخضر بشير الي مكارم بشير.. و ليحدث الناس من خلال الأقمار الاصطناعية، عن قرن مضى، وزمان تولى بحاله ورجاله وأبطاله .. فكأنه وكأنهم أحلام ..
كيف أفلت هذا الرجل ( الفلتة) من أمراض العصر.. ومن الزهايمر ، وباركنسون، وفقدان الذاكرة..؟!! وكيف نجت هذه الاسطورة لتعيش وتحكي لنا طويلا قصتها وتجربتها.. وليسرد تفاصيل زمان منسي.. وتاريخ غير مكتوب.. لأجيال لا تقرأ.. في زمان اغلقت فيه المكتبات العامة، ورحل (مكاوي) وتيتمت( الدار السودانية) وأوصدت (مروي) و(سودان بوكشوب) أبوابهما للأبد ..
ان بقاء قدور على قيد الحياة، حتى يحكي تجربته، ويسجل شهادته على العصر.. لهي إحدى أعاجيب الأقدار ..
رحل قدور.. وجاء يوم شكره..
فعلى عصاه توكأت فضائية النيل الازرق.. وخرجت به من الكآبة والرتابة والاداء البلاستيكي.. إلى مواسم من النصوص المنتقاة بذوق رجل ذواقة، ومعرفة عرف وعراف.. واختيارات شاعر وناقد ومؤدي.. ولا ينبئك مثل خبير..
جاء يوم شكره..
ويوم رد الجميل إليه ..
فقد صعد على كتفيه طابور طويل من المؤدين العاديين وصاروا به من طبقة النجوم .. وماكانوا يحلمون من الأمجاد ، بأكثر من العداد ..
الآن.. جاء الدور عليهم ليؤدوا واجبهم تلقاء الرجل الاسطورة.. وقد رحل مخلفا بيتا متعففا، وأسرة مستورة..
والمأمول من (النيل الازرق) وقبلها من الدولة ومن وزارة الثقافة أن ترعى مشروعا لتكريم الرجل يليق بتاريخه وعطائه.. فقد جاء يوم شكره..
إننا نأمل من( النيل الأزرق ) أن ترعى هذا المشروع الطموح، بإقامة يوم مفتوح.. وتقيم مهرجانات بالداخل والخارج وغيرها.. لتشييد صرح باسم (السر قدور) على غرار (دار فلاح) ومسرح (خضر بشير ) وقبل ذلك تشييد( بيت) يأوي كريَمات المبدع العبقري الأيتام .. وأرملته الصابرة .. حتى نكون بحق أمة تحفظ الجميل.. وتعرف المعروف..

إنضم الى مجموعتنا على الواتس آب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى