أعمدة

مصطفى ابوالعزائم يكتب في (بُعْدٌ .. و .. مسَافَة) .. قصة الغناء في السّودان …

نبتعدُ اليومَ قليلاً من السياسة ، ومن ساس يسوس ، ونربط القلمَ بسلاسل الفنِّ والإبداع ، خاصة جانب الغناء السوداني ، الذي تُجْمِع الروايات التاريخيّة المدوّنة والسماعيّة ، على أنه كغناء سوداني حديث مثّل سودان ما بعد الدولة المهديّة ، بدأ في الربع الأول من القرن العشرين ، وهذا لا يعني أنه لم تكن هناك أغنيات سودانية ، بل العكس تماماً ، فقد كانت هناك أغنيات المناطق ، مثل أغنيات النوبة في شمال السودان أو مثل أغنيات النوبة في جبال كردفان ، أغنيات شرق السودان وغربه ووسطه ، لكنها كانت تتميز بالإيقاعات المرتبطة بتلك المناطق ، والتي أصبحت جزءاً من الشخصية الثقافية والفنية للمنطقة التي تنتشر فيها ، والإيقاعات التي ميزت تلك الأغنيات ما زالت سائدة حتى يوم الناس هذا ، مثل إيقاع الدليب والنوبة والدلوكة ، والمردوم ، والجراري ، وإرتبطت أغاني بعض المناطق برقصات خاصة مثلما نجد في شمال السودان أو شرقه أو العرضة المرتبطة بالدلوكة أو رقصة الكمبلا والكرينق وغيرها مما إرتبط بأغنيات أهلنا النوبة في كردفان .
ظهور أغنيات ما بعد الدولة المهدية لا يعني أن الدولة المهدية خلال سيطرتها على مقاليد الأمور في البلاد لم يكن هناك غناء .. لقد حاولت الدولة المهدية توظيف الغناء توظيفاً سياسياً إن جاز التعبير ، فالدولة المهدية كانت تتحفظ على أنواع الغناء للمحبوب وبثه لواعج الشوق والغرام ، وذلك للخلفية الدينية التي قامت عليها الدولة ، لذلك راج الشعر الذي يمجد الإمام محمد أحمد المهدي وخليفته الأول والأخير عبدالله ود تورشين ، وظهر شعراء كبار ما زال الناس يتداولون أشعارهم حتى اليوم. ولكن سوق الغناء كانت خالية ، ولم تظهر من أغنيات تلك الفترة إلا أغنية واحدة يستشهد بها الباحثون في تاريخ الغناء السوداني ، وهي أغنية يقول مطلعها : ( الحار دفا … الحار دفا .. والمهدي جا من دنقلا قال الفتاة بي فد ريال .. والعزباء الفاتحة ) ولون مثل هذا يؤكد توظيف الغناء لخدمة السياسة ، وإن لم يكن هذا يمنع الغناء السري ، أو غناء السمر الذي يتم بعيداً عن عيون وآذان السلطة .
يقول الباحثون إن مدينة أم درمان التي جمعت قبائل الشرق والوسط والجنوب والشمال والغرب، قدمت منتوجاً ثقافياً جديداً ، نتيجة الإختلاط والمصاهرة وتبادل الثقافات ، حتى إن الأمر لم يقتصر على القبائل المحلية بل إمتد للأرمن والشوام وقبلهم إمتد الى المصريين الذين كان أثرهم واضحاً من خلال رحلات العلماء إلى الأزهر الشريف ، أو من خلال التزاوج والمصاهرة .
فترة ما بعد الدولة المهدية تنفس المجتمع بعض الشيء وتنافس الشعراء في تقديم أجمل قصائدهم وتبارى المغنون المحليون في عرض ما عندهم من أغنيات تمثل ثقافاتهم المختلفة والمتنوعة ، لكن إنتشارها كان محدوداً في دائرة من تعبِّر عنهم الكلمات ويطربهم اللحن ، وظهر مع بدايات القرن العشرين ، من كانوا يُسمّوَن ب ( الطنابرة) ويؤدون ما يعرف وقتها ب (الحمبي) إلى أن جاء إلى مدينة أم درمان قادماً إليها من كبوشية محمد ودالفكي بابكر الذي قدّم نوعا جديداً من الأداء ، وتختلف الروايات حول مقدم محمد ود الفكي إلى أم درمان ، فرواية تقول بأن مقدمه الأول كان في عام 1908 م والثانية تقول أنه كان في العام 1914 م ، وهي الرواية الأرجح ، وقد لمع نجم عدد من شعراء ذلك الزمان ، وظهر مطربون يشدون بغناء وسطي مفهوم ، هو بداية الأغنية الأم درمانية ، ولمع إسم محمد أحمد سرور ملكاً للأداء ، لكنه كان يغني ومن ورائه الطنابرة ، الذين يرددون صوتاً أقرب لما يسمى ب (الكرير) لكن صوت المغنّي كان هو الأقوى والأجمل ، إلى أن حدث التحوّل الكبير ، في عام مُخْتلَفٌ حوله ، هو عام زواج التاجر الأشهر في مدينة أم درمان القديمة وقتها بشير الشيخ ، وكان ذلك بدايات عشرينيات القرن الماضي ، ويقول البعض أنه كان في عام 1917 م بينما يقول البعض أنه كان في عام 1921 م ، ويزيد البعض أو ينقص في وقت تلك الزيجة التي غيرت مسار الغناء السوداني ، لكن الرواية الأرجح هي أن ذلك كان في العام 1921 م ، عندما كان سرور يستعد لإحياء تلك الليلة ، لكنه فوجئ بإمتناع الطنابرة بمصاحبته في الغناء ، فحدث التحول الأكبر بأن تقدم وجده وأطلق لصوته العنان مقدماً الرمية الأشهر للشاعر الكبير العبادي والمعروفة ب (الطابق البوخة ) وكان ذلك هو إعلان الطلاق ما بين الطنابرة وبين المطربين ليبدأ عهد جديد من عهود الغناء السوداني ، عرفناه لاحقاً بعهد أغنيات الحقيبة ولهذه التسمية قصة يعرفها الجميع قد نتعرض لها لاحقاً ، وحتى بعد تطور الأداء ، ومصاحبة الفرق الموسيقية للمغنين في فترات لاحقة عرفت بفترة الغناء الحديث ، لم يتأثر غناء الحقيبة ولم تتراجع أسهمه بل أنه أصبح هو شهادة المرور والنجاح لأي مغنٍ يود دخل سوح الغناء ، إذ أن كبار الفنانين والمطربين من الرواد تغنوا في بداياتهم بأغنيات الحقيبة ، وظل برنامج من حقيبة الفن منذ عهد الشاعر والأذاعي والدبلوماسي الراحل السفير صلاح أحمد محمد صالح ومن بعده أستاذنا وأستاذ الأجيال البروفيسور علي شمو ، ومن تلاهما بعد ذلك في التقديم حتى عهد صديقنا الأستاذ عوض بابكر ، أصبح برنامج من حقيبة الفن واحداً من الطقوس الإذاعية الغنائية التي تسهم في ترسيخ الغناء السوداني وتعمل على توحيد الوجدان الفني الوطني صباح كل يوم جمعة .. هذا إذا عاد للإذاعة دورها القديم ، وإذا عادت الآذان والقلوب تتجه إليها من جديد .

Email : sagraljidyan@gmail.com

إنضم الى مجموعتنا على الواتس آب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى