أعمدة

جمال عنقرة يكتب في (تأملات) .. الهوسا والخزرج .. وأزمة الهوية السودانية

يحكي أن واحدا من مثقفاتية هذا الزمان، عندما سمع عن أزمة النيل الأزرق التي امتدت إلى بقاع أخري كثيرة في مناطق متفرقة في السودان، قال هذا المثقفاتي متعجبا “الهوسا والخزرج ديل الرسول صلى الله عليه وسلم صالحهم زمان، تاني مالهم قاموا للمشاكل؟”
كثيرون تناولوا هذا الأزمة من زوايا مختلفة، وبرغم تقديري لما ذهب إليه أكثر الذين تناولوا هذا الموضوع، لكنني أجد جذور الأزمة تعود إلى أعمق مما ينظر إليه كل هؤلاء، وحتى مسألة الهوية التي أشرت إليها في عنوان هذا المقال، يخلط كثيرون فيها قضايا السياسة، ولا يغوصون في اعماقها السحيقة التي تعود إليها أسباب كثير مما يعاني منه المجتمع السوداني، وكثيرون من السودانيين لا يدركون قيمة كونهم سودانيين، ولذلك يظلون علي الدوام يبحثون عن انتماءات أخري تنقص منهم ولا تضيف لهم شيئا، وظللت في الأيام الأخيرة أكثر من إرسال تسجيلين، أحدهما للزعيم الراحل الدكتور جون قرنق دي مبيور، وهو آخر حديث له، ولا شك عندي أنه كان السبب وراء اغتياله الذي تم بمؤامرة عالمية إقليمية، وصمت داخلي، هذا إن لم نقل تؤاطؤ، وكان الدكتور قرنق قد حث السودانيين علي التمسك بالسودانية لأنها وحدها التي يمكن أن تجمعهم، فلا العروبة تجمعهم، ولا الإفريقيانية، ولا الإسلام يجمعهم، ولا المسيحية، ولا أي دين آخر، فكل شئ من هذه له أنصار، وله مخالفون، ولكن السودان وحده الذي يجمعهم كلهم، وذات المعاني قال بها الراحل المقيم الموسيقار الدكتور عبد الكريم الكابلي في محاضرة ألقاها علي جمع من السودانيين في أمريكا، فالسودان وحده الإنتماء الاشمل والاعز للسودانيين، ولكنهم يهربون منه جميعا، ويبحثون عن انتماءات يظنون أنها ترفع من شأنهم، بينما هي تحط من اقدارهم عند من يتمسكون بها.
ومما نحمده لجدنا الأمير النور عنقرة أنه لم يترك قبيلة في السودان إلا وتزوج منها، حتى بلغ عدد زوجاته الخمس عشرة فوق المائة، وانجب منهن مائة وثلاثة من البنين والبنات، لذلك لا أجد مكونا سودانيا قادما أو قديما لا تربطني به صلة دم وقرابة، ولا أجد فضلا لمكون علي غيره، ولا أجد حرجا في القول بأن كل ما يزعمه السودانيون من فضل بسبب أي نسب، كلها ادعاءات كاذبة، ويحكي أن إثنين من السودانيين كانا يتحاجان في دولة عربية، ويزعم كل منهما أنه أشرف من الآخر، وأعز نسبا، فقال أحدهما أن جده العباس بن عبد المطلب، وهنا تدخل منسوب الدولة العربية التي كانوا يعيشون فيها وقال له ساخرا “يا شيخ…! قول جدي بلال” ويحكي أيضا أن سودانيا كان يعيش في أمريكا، فدخل محل تجاري، فتحدث معه صاحب المحل علي أساس أنه زنجي أمريكي، فصححه السوداني وأوضح له أنه ليس زنجي أمريكي، فرد عليه صاحب المحل بقوله “You just missed the boat ” ويعني أنه لو أدركه المركب الذي كان يجلب الرقيق من أفريقيا، لصار أمريكيا.
ومثلما خلط ذاك المثقفاتي بين الأوس والهوسا، فإن كثيرين يخلطون بين الهوسا وبين بعض قبائل الفولان والفلاتة، وغيرها، ولكنه خلط غير مخل، ومما يميز هذه القبائل علي كثير من غيرها التي هاجرت إلى السودان في أزمان مختلفة، أنهم لم يختلطوا بغيرهم من القبائل الأخري، ذلك أن هجراتهم لم تكن مثل هجرات غيرهم، فبينما كانت هجرات غيرهم ذكورية فقط، فهم أتوا رجالا ونساء، ذلك أنهم لم يأتوا بغرض الإستقرار مثل غيرهم، وإنما أتي بهم الطريق إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج، لذلك كان الناس، ولا يزالون يطلقون عليهم صفة “حاج” ولتحقيق هذا الهدف كانوا يعيشون مع بعض، ويعملون لاكتساب المال الذي يمكنهم من أداء فريضة الحج، حتى صارت لهم أحياء ومدن، وتوالدوا، وتناسلوا، وتكاثروا، وكما ذكرت فإن هجرات القبائل الأخري المختلفة للسودان، لم تشتمل علي إناث، فتزاوج هؤلاء مع الذين سبقوهم، أو مع القلة التي كانت موجودة في هذه الديار منذ قديم الزمان، ومن الغرائب أن هؤلاء رغم أنهم بتعاقب الأجيال صار المكون المحلي هو الطاغي علي سمتهم، لكنهم ظلوا يستعلون بالنسب القديم الذي لم يبق منه إلا إسمه، ولا أدري لماذا يصر هؤلاء علي هذه الأنساب رغم أنهم غير معترف لهم بها عند أدعيائها الأصليين، ورغم أن كثير من هجرات السابقين من منسوبيها لا تشرف، فبعضهم أتوا غزاة، والبعض أتوا مرشدين لغزاة، أو عاملين لديهم، وبعضهم أتوا فارين لأسباب مختلفة، وقليلون منهم أتوا تجارا، وأقل منهم أتوا دعاة أو معلمين. وأذكر أن واحدا من أشهر أشراف السودان، من الذين ارتبطت أسماؤهم بالشرف، وهو رجل جدير بحمل لقب الشرف، لأنه ينطبق عليه اسما ووصفا، قال لي ذات يوم، “أدعياء الشرف في السودان ديل أكثرهم كذابين، نصفهم حلب، ونصفهم فلاتة زينا كده”
صحيح أن الأزمة الأخيرة زاد إشعال نارها تجار السياسة، وأعانهم علي التمدد وتوسيع دائرة الفتنة ضعف الدولة، وهشاشة النظام الحاكم، ولكن تظل ادعاءات التميز الكاذبة هي اس أزمة تماسك المجتمع السوداني، وهي التي كانت سببا في انفصال الجنوب عن الشمال، وهي التي تعمل الآن علي تفكيك الشمال، وإن لم يتم تدارك ذلك بوعي، وشجاعة، وجسارة في مواجهة الحقائق، فعلي السودان السلام.

إنضم الى مجموعتنا على الواتس آب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى