مقالات

عن الفواعل السياسية السودانية في هذه المرحلة الحرجة في تاريخ السودان الحديث بقلم : د. أماني الطويل

امتدت عملية الانتقال السياسي في السودان لمدة تقارب أربع سنوات ولا أفق يبدو ظاهراً لانتهاء هذه الفترة وعقد الانتخابات اللازمة لتأسيس شرعية سياسية جديدة بعد الثورة السودانية التي أطاحت بنظام عمر البشير. وقد تضمنت هذه الفترة بلورة وثيقة دستورية انتهى العمل بها في أكتوبر 2021، حيث تم فض صيغة الشراكة بين المكونين المدني والعسكري لفترة امتدت حتى مطلع ديسمبر 2022، ولكن تم إحياء هذه الصيغة مرة أخرى في صيغة اتفاق إطاري مبدئي مضمون من المجتمع الدولي، يستهدف تسليم السلطة كاملة للمدنيين.

وقد كان من المفترض أن يكون هناك توقيع نهائي على هذا الاتفاق في غضون أسابيع، ولكن هذه العملية قد تعطلت حتى الوقت الراهن، وهو ما يجعل تكوين حكومة مدنية منوط بها تهيئة المناخ للعملية الانتخابية المنتظرة مجمداً، فضلاً عن تعطيل تسيير دولاب الدولة السودانية، على نحو يلقي بأعباء كبيرة على المواطن السوداني أخطرها تصاعد التوتر الأمني بين المكونات المسلحة، وضعف قدرات الأمن العام في حماية المواطنين في الشارع السوداني.

في هذا الإطار، يكون من المهم التعرض لعناصر الأزمة السودانية في الوقت الراهن، والسيناريوهات المترتبة على استمرارها من حيث عدم فاعلية الفترة الانتقالية في التهيئة للعملية الانتخابية وتأسيس شرعية سياسية جديدة.

جوهر الأزمة السودانية وسماتها
ترتبط الأزمة السياسية الراهنة في السودان على نحو عضوي بمستقبل المعادلات السياسية في السودان وفواعلها، وما إذا كانت هذه المعادلات تستطيع القيام بمهام تسليم المدنيين كامل السلطة في السودان، وتحقيق تطور ديمقراطي بمفهوم حداثي يستطيع الاستجابة بفاعلية لعملية التطوير البنيوي للدولة السودانية، بحيث تنتقل من حالة ما قبل الدولة التي تلعب فيها الانتماءات الأوّلية؛ أي العرق والدين والقبيلة العنصر الحاسم في التفاعلات إلى حالة الدولة؛ أي بلورة عقد اجتماعي متفق عليه أساسه المواطنة المتساوية. وربما يكون من الجدير ذكره هنا أن هذه الأزمة ممتدة في إطار دولة الاستقلال الوطني السوداني منذ عام 1956 وهي موضوع ثلاث ثورات شعبية شهدها السودان على مدى ما يقارب من الستة عقود ولكنها لم تحقق أهدافها، وذلك إلى حد وجود أدبيات سياسية تثير كثيراً من الجدل السياسي والثقافي الداخلي وتتحدث عن أن المشكلة تتعلق بالنخب السودانية نفسها، ربما من أشهرها سفر منصور خالد الذي بلوره في جزئين استعرض فيهما التاريخ السوداني الحديث.

في هذا السياق، يدور الصراع السياسي الراهن على أكثر من مستوى في عملية تداخل وتركيب معقدة حتى الآن لم يتم حلها رغم المقاربات السياسية المتعددة التي تمت منذ إسقاط نظام البشير في إبريل 2019 وعمليات الإسناد السياسي التي تقوم بها البعثة الأممية للأمم المتحدة التي تعمل في السودان لضمان التحول الديمقراطي منذ مطلع 2021، وكذلك اهتمام ومتابعة عواصم دولية مهمة مثل واشنطن ولندن.

عناصر الأزمة
يمكن تحديد عناصر المشكلة الراهنة في السودان في العناصر التالية:

1- المكون العسكري: يدور الصراع السياسي الراهن حول طبيعة دور المكون العسكري السوداني في الفترة المستقبلية من حيث وزنه في المشهد السياسي، وذلك على خلفية أن هذا المكون مقسم حالياً بين 9 جيوش مسلحة بأوزان مختلفة ودون عقيدة عسكرية واحدة، حيث يعاني الجزء المؤسسي الرسمي، أي القوات المسلحة السودانية، من نفوذ لقوى الإسلام السياسي كنتيجة لحكم الجبهة القومية الإسلامية التي حكمت بموجب انقلاب عسكري، وهو ما يساهم في خدش مصداقيتها لدى البعض في إسناد عملية التحول الديمقراطي من ناحية، وبلورة نوع من الشكوك حول طبيعة أداءها وتحالفاتها في هذه المرحلة مع الأطراف السياسية السودانية، وذلك في وقت يواجه الجيش السوداني تحدي وجود قوات موازية له ذات طابع ميليشاوي أسسها الرئيس البشير تأسيساً قانونياً قبل خلعه، وهو التحدي الذي أسفر عن عملية تنافس بين قيادتين عسكريتين تهدد أحياناً بإمكانية نشوب اشتباكات مسلحة بينهما.

وفي سياق موازي لهذا التحدي المركزي، تواجه باقي القوى المسلحة تحدي التصنيف على أساس عرقي أو قبلي، ومن هنا فهي محكومة في أدائها بهذه الاعتبارات دون الوطنية، وتمارس تحالفاتها السياسية استجابة لذلك وتتسبب على نحو ما في إرباك التفاعلات السياسية التي تتم استجابة لحساسيات جهوية وعرقية دون الانتباه للضرورات القومية.

2- كفاءة نخب الانتقال: أفرزت الثورة السودانية نوعين من النخب السياسية. الأول، ينتمي لأحزاب سياسية متنوعة الاتجاهات ومتعددة الأوزان السياسية، والثاني يمكن اعتباره مجرد مجموعة من النشطاء السياسيين جلهم من الشباب المنتمين لمشروع التغيير والتحول الديمقراطي بأطره الثورية والمبدئية.

وبطبيعة الحال، ساهم النظام السلطوي الممتد في السودان لثلاثين عاماً في افتقاد هذه النخب للكفاءة المطلوبة لإدارة عملية الانتقال، حيث لم يتح للنخب الجديدة التدريب الكافي لممارسة مهام الانتقال الذي يكون مكفولاً غالباً في النظم الديمقراطية، كما مارس النظام السلطوي دوراً في تقسيم الأحزاب السياسية وتشظيها لضمان استمرار قبضته على السلطة، كما لم يتحل المعارضون له بالقدرة ولا بالأفق الوطني اللازم لتجاوز تحدي الانقسام السياسي خصوصاً بعد الثورة.

وفي هذا السياق، لا يمكن نكران أن هناك حالة من الشراهة للسلطة من جانب أطراف حرموا منها طويلاً وبالتالي مارست نخب ما بعد الثورة أخطاء رئيسية سمحت بلملمة قوى النظام القديم وبلورة قواه في تنظيمات جديدة مناوئة لمشروع الثورة السودانية المستهدف دولة المواطنة المتساوية ونظام حكم ديمقراطي.

3- قدرات النظام القديم: انتمى النظام السوداني القديم لتيار الإسلام السياسي وحَكَمَ السودان تحت مظلة تنظيم الجبهة القومية الإسلامية التي بلور بنيانها الفكري وهياكلها التنظيمية الدكتور حسن الترابي. وقد انقسمت نخبة هذا التنظيم في صراع شهير على السلطة عام 1999، وتسبب هذا الانقسام في تصاعد مهددات الأمن القومي السوداني، ونخر في عافية مؤسسة الدولة السودانية وذلك على منصة أزمة دارفور التي كانت من معطيات استقلال جنوب السودان عام 2011، حيث تمت بلورة اتفاق نيفاشا عام 2005المؤسس لهذا الاستقلال بينما النخب الحاكمة السودانية مهددة ويمارس عليها ضغوطا دولية تأثراً بعاملين هما الانتهاكات ضد الإنسانية التي مارسها النظام السوداني في دارفور اعتباراً من عام 2003، وتدبير محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك عام 1995في أديس أبابا.

وقد امتلكت هذه النخب، خصوصاً تلك المتنفذة بعد 1999، مفاصل الدولة الاقتصادية، وما تزال، ومارست عمليات ممنهجة في الفساد السياسي والمالي كشفتها بعض العناصر المنتمية لها قبيل الثورة، وتسببت في رفع مستويات الاحتقان السياسي المؤسس على فشل اقتصادي وتنموي، وكذلك عمليات إفقار لغالبية السكان السودانيين خصوصاً في أطراف الدولة.

وعلى الرغم من هذه الممارسات المدانة، فإن قوى النظام القديم، وجلها من تيار الإسلام السياسي، تقف حالياً ضد صيغة الاتفاق الإطاري الأخير والمنجز لتحقيق توافق سياسي قد يقود لاستقرار سياسي، حيث يعتبرون أن هذا الاتفاق يعني تفكيك قدراتهم الاقتصادية تحت مظلة مقولات إزالة التمكين لنظام البشير، خصوصاً وأن أداء لجنة إزالة التمكين الأولى التي كونتها الحكومة المدنية الثانية أنتج توترات سياسية واجتماعية عميقة. ولعل ذلك ما يفسر البلورة التنظيمية التي أعلنتها قوى الإسلام السياسي مؤخراً في قاعة الصداقة بالخرطوم تحت عنوان “حركة المستقبل للإصلاح والتنمية”. وتكمن أهمية هذا المؤتمر وخطورته في أنه نتاج مؤتمرات واجتماعات تنظيمية، بما يعني وجود آليات عمل كفؤة للنظام القديم وكذلك قيامه بعمليات الحشد والتحريض ضد الأطراف الدولية وقوى الثورة السودانية، حيث أن تحليل مضمون الخطاب الرئيسي في هذا المؤتمر يؤكد عدداً من النقاط؛ منها استعداء الجمهور العام ضد التدخل الدولي في السودان، واتهام القوى المدنية بالارتهان للأطراف الدولية ووصمها بأنها “صنيعة لها”، بل تم وصم الثورة السودانية ونعتها بأنها “بلا برنامج وطني ولا رؤية ولا نظرية ثورية وطنية”، وهو أمر طبيعي، ويمكن فهمه في سياق أن هذه الثورة قد أطاحت بحكم هذه النخب من مفاصل الحكم، ولكن تداعياته بالتأكيد تساهم في تصاعد التوتر السياسي والأمني خصوصاً وأن رئيس البعثة الأممية فولكر بيرتس يتم تهديده بالقتل دورياً كما أعلن. كما أن رموز سياسية محسوبة على الثورة السودانية قد تعرضت لعملية إذلال ممنهجة بعمليات اعتداء واغتصاب لذويهم.

4- الفاعل الدولي: تسبب الموقع الجيوسياسي للسودان الذي يمتلك شواطئ طويلة على البحر الأحمر، ويعد دولة ممر لنهر النيل، وكذلك توسطه بين دول مضطربة بين شرق إفريقيا وغربها تعاني من استفحال الظاهرة الإرهابية، في اهتمام المحيطين الإقليمي والدولي بمجريات التطورات السودانية خصوصاً تحت مظلة حالة صراعية بين أطراف النظام الدولي، متمثلة في الحرب الروسية الأوكرانية. وقد توازى ذلك مع رغبة داخلية سودانية في ضمان عدم استحواذ المكون العسكري على السلطة في السودان. ومن هنا تم طلب وجود بعثة تابعة للأمم المتحدة تكون حارسة لعملية الانتقال السياسي في السودان.

وطبقاً للمعطيات السالفة الذكر، فقد تم تكوين أطر إقليمية ودولية مشتركة ومنفصلة بشأن محاولة ضبط التفاعلات السياسية السودانية المتعثرة ومنعها من المساهمة في تصاعد التوترات الأمنية الداخلية وربما الإقليمية. من هنا، شاركت البعثة الأممية مع مجهودات كل من الاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيجاد، كما كان لهذه البعثة دور قائد في إطار مبادرة دولية إقليمية مشتركة ضمت كلاً من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والسعودية والإمارات.

وقد أسفرت هذه الجهود عن بلورة وثيقة دستورية في أغسطس 2021 مؤسسة على شراكة بين المكونين المدني والعسكري، على أن يسلم المكون العسكري السلطة في نوفمبر 2021. وقد أسفر فشل هذه الصيغة عن إرباك المشهد السياسي السوداني وتصاعد التوتر فيه حتى تم توقيع الاتفاق الإطاري في ديسمبر الماضي وهو الاتفاق الذي يعاني حالياً من تعثر يهدد استمراره.

إجمالاً، يبدو المشهد السوداني مفتوحاً على سيناريوهات غير آمنة ومهددة للاستقرار على الصعيدين الداخلي والإقليمي، وهو ما يستلزم انتباهاً داخلياً من القوى السياسية والنخب بشكل عام وكذلك اهتماماً من الفواعل الدولية والإقليمية.

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية والخبيرة فى الشئون الأفريقية

إنضم الى مجموعتنا على الواتس آب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى