أعمدة

(بُعْدٌ .. و .. مسَافَة) .. مصطفى ابوالعزائم ..يا مايو حبيب …!

منذ الإطاحة بالنظام المايوي وأجهزته ، صبيحة السادس من أبريل عام 1985م ، ظللت على مدى سنوات عديدة أتلقى رسالتين من أخي وصديقي الراحل المقيم ، الأستاذ إلياس الأمين عبدالمحمود ، مدير المراسم في الإتحاد الإشتراكي (الأول) ، وعضو مجلس الشعب في تلك الحقبة ، والذي جمعتني به علاقة صداقة قوية رغم إختلاف المشارب الفكرية ، والرؤى السياسية ، ففي صبيحة كل يوم يصادف الخامس والعشرين من مايو في كل عام كنت أتلقى رسالة من شاكلة : (يا ثورة سلكت ضمير الناس قد سلكت ضميري.. فوضعتُ في يدها يدي ، وجعلت من غدها غدي ، ومضيت في عزمات وثبتها فبايعت النميري) أو: (يا مايو حبيب زي أمي وأبوي .. زي أختي وأخوي ) ثم تهنئة وأمنيات طيبة بما يسميه الأستاذ إلياس( أعياد مايو الخالدة) رحمه الله فقد عاش مخلصاً لمايو ومات كذلك .
أما في أبريل فإنه كان يبعث برسالة حزن وشماتة ، وهو أول من أطلق على اليوم السادس من أبريل إسم (يوم السجم والرماد) .. وما كان لي أو لغيري أن نلوم الأستاذ إلياس الأمين ، فقد كان من المؤمنين بالفكر المايوي ، ومن المروّجين له ، رغم أنه كان دائم الإتهام لي ، وعلى رؤوس الأشهاد بأنني (شيوعي حاقد) ، ولا أدري من أين جاء بهذه الفرية العظيمة ، وإن كنت قد أرجعتها الى عدم إستجابتي ، وأنا شاب صغير السن أدرج في مدارج العمل الصحفي الأولى ، وتم تكليفي بتغطية أعمال الاتحاد الإشتراكي السوداني ، إبان تولي أستاذنا الصحفي الكبير إبراهيم عبدالقيوم رحمه الله ، لمقاليد رئاسة التحرير في صحيفة (الأيام) التي كنت أعمل بها ، وكان أستاذنا الكبير الراحل حسن ساتي نائباً لرئيس التحرير ، بينما كنت محرراً بقسم الأخبار في الصحيفة .. وقد خلقت علاقات طيبة مع كثير من العاملين في الإتحاد الإشتراكي بحكم عملي ، مستنداً على أنهم مصادري الأساسية في العمل والمعلومات ، لذلك لم تكن تفوت علينا شاردة أو واردة ، مما يجري داخل أروقة تنظيم مايو السياسي .
في ذلك الوقت ، ونحن على العتبات الأولى من ثمانينيات القرن الماضي ، كان أن تولى صديقنا الأستاذ مكي السّماني أمانة الشباب بالإتحاد الإشتراكي ، خلفاً للدكتور مكاوي عوض المكاوي ، وفوجئت في النشرة الرئيسية من تلفزيون السودان ، بورود إسمي ضمن المكتب التنفيذي لإتحاد شباب السودان ، ضمن حزمة قرارات أصدرها المشير جعفر محمد نميري ، رئيس الإتحاد الإشتراكي ، ورئيس الجمهورية وقتها.
لم أنم ليلتها ، وحملت هماً عظيماً ، وكانت القرارات قد تضمّنت أيضاً إختيار زميلي وصديقي الصحفي الأستاذ نجيب نور الدين ، الذي قابل النبأ بذات الهم ، وقررنا عدم قبول القرار ، ولكن كيف السبيل الى ذلك، خاصة وأننا نعلم أن الصحيفة التي نعمل بها (الأيام) وشقيقتها الوحيدة (الصحافة) مملوكتان للإتحاد الإشتراكي السوداني ، وهذا يعني في تقدير شابين صغيرين الفصل والتشريد ومفارقة عالم الصحافة التي نحبها ، لذلك ذهبنا لمقابلة الأستاذ مكي السماني ، وقابلت من جانبي صديقي الأستاذ كمال الدين محمد عبدالله وكان وقتها أميناً عاماً لإتحاد الموظفين والمهنيين السوداني ، وطلب من كل منا إبتداع طريقة تعفيه من قبول التكليف دون حرج ، فكان المخرج في ما إقترحه علينا الأستاذ كمال الدين محمد عبدالله ، وهو أن نتغيب عن ثلاثة من اجتماعات متتالية للمكتب التنفيذي ، لأن اللوائح تنص على أنه في حالة غياب عضو المكتب لثلاثة اجتماعات دون عذر يتم فصله فوراً.. ثم سألته – بسذاجة- هل سيتم إعلان فصلنا بقرار؟.. فضحك وقال (لا).
ومنذ ذلك اليوم ظللت بالنسبة للأستاذ إلياس الأمين والى أن توفاه الله في العاشر من يناير عام 2015م ، ظللت بالنسبة له (شيوعياً حاقداً) أو كما كان يقول ، الى أن أنار الله بصيرته وعرف أين يكون موقعي من الإعراب السياسي والمهني.
الآن نحاول أن نستذكر ونراجع ما حدث ، وقد مضى أكثر من ثلاثة وخمسين عاماً على تحرّك ضباط خور عمر في الخامس والعشرين من مايو 1969م ، وتسلمهم مقاليد السلطة ، حيث حاولوا إدارة البلاد جماعياً ، لكنهم فشلوا في ذلك ، فأقصاهم أقوى رجال مايو ، العقيد أركان حرب جعفر محمد نميري، الذي ترقى الى رتبة لواء ، أقصاهم الواحد تلو الآخر ، وإنقلب على زملائه من أعضاء الحزب الشيوعي في عام 1970م ، ثم إنفرد بالسلطة ليصبح رئيساً للجمهورية بسلطات مطلقة حسب دستور 1973م ، وأصبح هو رياضي السودان الأول ، وكشافه الأعظم ، وكل النهايات المطلقة الموجبة ، وإنقلب للسير نحو اليمين ، وجاء بمعارضيه بعد مصالحة 1977م الشهيرة ، وأرادهم أن يكونوا (تمومة جرتق) السلطة التي جمعها بين يديه ، وضم المكتب السياسي للإتحاد الإشتراكي كل قيادات الأحزاب الطائفية والتقليدية ، وكثيراً من الشيوعيين الذين خرجوا عن حزبهم ، ثم أخذ في إقصائهم مثلما فعل مع زملائه الواحد تلو الآخر ، ولم يبقَ في المركب المايوي ، سوى التيار الإسلامي ، الذي أبعده نميري أيضاً قبل سقوط نظامه بأيام قليلة ، بعد أن حاول أن يحمّلهم كل أوزار النظام ، وشنق زعيم الجمهوريين الراحل الأستاذ محمود محمد طه .
كُنتُ أقول لأخي وصديقي الأستاذ إلياس الأمين رحمه الله ، في كل ذكرى لمايو ، إن الذكرى تنفع المؤمنين ، وعلها تنفع المؤمنين بمايو..!
نحن في عالم الصحافة كُنّا دائماً نعمل جاهدين على أن نُقدّم توثيقاً حقيقياً لتلك الفترة السياسية المهمة في تاريخ بلادنا ، ونأمل أن يتعلم السّاسة الدروس ، وألا نصبح مثل الفئران التي تصرعها الشراك المتكررة منذ بداية الخليقة ، دون أن تتعلّم منها الأجيال القادمة والجديدة ، فتقع في ذات الشراك والفخاخ .

Email : sagraljidyan@gmail.com

إنضم الى مجموعتنا على الواتس آب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى