مقالات

الصراعات القبلية وضياع الهوية (1) د. محمد أحمد ضوينا

نتناولُ في هذه المساحة واحدةٌ من أكبرِ أزمات الدولة السودانية التي ألقتْ بظلالٍ سالبة على النهضة والهُوية ، بل وخربتِ النفوس ووأفسدتِ القلوب وقضت على كثير من قيمنا ألا وهى مأساة القتال القبلي لننظر في نشأة الصراع ، ومخلفاتهِ من آثارٍ مدمرةٍ ونناقشُ وسائلَ العلاج .
السودانُ بلدٌ متميزٌ بتنوعِ قبائلهِ وثقافاتهِ وهذا التنوعُ ينبغي أن يكونَ مصدرَ ثراءٍ وقوةٍ ، وذلك بتعايشنا السلمي ونشرِ المحبةِ والتسامح والتعاونِ والتكافلِ والعملِ الجماعي المشتركِ المفضي لصناعة سودانٍ عظيمٍ وموحدٍ تتكاملُ فيه كلُّ الاختلافاتِ والثقافاتِ لتعميرِ مجتمعِ الفضيلةِ .
ولكن مع الأسف حوَّلنا القيمةَ الحقيقةَ للتنوع إلى فسادِ القيمِ والأخلاقِ بسبب القتال بيننا واستعداءِ بعضَنا لأتفهِ الأسباب ، بدلاً عن العيشِ في سلامٍ يرفعُ معنى وطنِ الجمال ، ونشأت ظاهرةُ الحروباتِ القبليةِ على مدى عقودِ الحكم الوطني وعمَّ الصراعُ القبليُّ كلَّ السودان وتكادُ لا تخلو أيَّ ولايةٍ من نزاع قبلي فشهدنا عبرَ التاريخِ حروباتٍ داميةٍ بين القبائلَ والعشائر إلى يومنا هذا .لتزيدَ بنداً في قائمة المآسي التي تحيطُ بالسودان وأقعدته عن ركبِ الأمم ، والأكثر أسفاً يكونُ القتالُ غالباً بين قبيلتين متجاورتين لقتلِ قيمةِ الجوار قبل الأنفس ، أو بين عشيرتين في الدم لتُفسدَ قيمةَ الرحم الذي هو من الرحمن ، وجراء هذا الجرم الشنيع خسرنا مئاتِ الآلافِ من الأرواح ،و وملايين الأيتام ، وأفسدنا الثروات والمباني والمعاني وأخرنا بلادنا سنوات ضوئية ، هل لا يعلمُ هؤلاء المتقاتلين أنهم سبب ضياعِ هوية وطن بأكملة .
الأسباب والدوافع :
أولاً ضعفُ الوازعِ الديني : القبيلةُ جعلٌ من الله ، قال تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ،،،فالله الذي جعلنا قبائل باحتلاف ألواننا والسنتنا لغاية التقوى ، فالقبيلةُ قيمةٌ إنسانية ٌ يتم توظيفها لصناعة الخير بين الناس وللتعاون بالمعروف وإحسان الرحم والجوار والعيش المشترك في وطن مشترك لخلق التواصل الانساني والتراحم البشري وتبادل المنافع وجبر الضرروإحسان استقلال المشتركات في الأرض والماء والكلأ وبسط روح التآخي ومجموعُ هذا يؤدِّي إلى تقوى الله ، اما الذين يوظفون القبيلةَ لتمييزِ الناس واضهادِ الآخر ونشرِ الفتنة والتنازعِ في المشتركات وقتلِ النفسِ (وهذا أشرْ) لأن النفس من صنع الله سواهُا ونفخَ فيها من روحهِ وأكرمها وجعلها خليفتُه فهذا عصيانٌ وحربٌ مع الله ،
ثانياً انتشارُ السلاج : السودان محاطٌ بدول شهدتْ نزاعاتٍ داخلية في المدى القريب أو البعيد كجنوبِ السودان ، وتشاد ، وإفريقيا الوسطى وأثيوبيا وأرتريا ، وكلِّ هذه الدول لها اتصالات حدودية مباشرة مع الولايات المتاخمة لها وعلاقات قبلية وتجارية وغيرها ، هذا الذي جعل دخول السلاح عبر الحدود أمراً ممكناً مع عدم قدرة الدولة على السيطرة على الحدود وجمع السلاح ومحاسبة التعامل مع امتلاك السلاح بطريقة غير شرعية ، ويقول مراقبون أن حوالي مليوني قطعة سلاح منتشرة بين القبائل ، بالإضافةِ إلى قيام ِالدولة بعسكرتِ المدنيين واستخدامِهم في حروباتِها ، الأمرُ الذي جعلَ السلاحَ آلةً عاديةً بين الناسِ ولَعِبٌ بيدِ الأطفال ، واستعماله للبُشرى في الأفراح ، ودخل ضمن الموروث الثقافي لبعض القبائل .
ثالثاً الأرض والموارد :كثيرُ من القبائل في السودان تمتلكُ أراضي وحواكير بوثائق ومستندات منذ عهد الانجليزالذين قسَّموا الأرض السودانية على أساس قبلي ، فنجد ديار القبيلة كذا وديار أبناء فلان ، ويتمُّ حصرِ إدارة الديار واستخدامِ مواردها واحتكارِ ثرواتها على مالكيها الأصليين والقبائل الرئيسية فيها وإهمالِ القبائل الصغيرة وعدم السماح لها بالاستفادة من هذه الموارد بسبب العلاقة التقليدية القوية بين القبائل والديار المملوكة، إضافة إلى أن هذه العلاقةَ تسمحُ للقبائلِ الرئيسية بممارسة الحقوق الإدارية والسياسية بينما لا يُسمحُ للقبائل الصغيرة بتملكِ هذه الأراضي .
هذا لايعطي القبيلة الحق المطلق في حرمان الآخرين من الاستفادة من الأرض ، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ، فمن حق الآخرين الحياة والسكن والزراعة ،
وأكثر النزاعات القبلية تقوم بسبب امتلاك الأرض والحواكير والقبيلةُ صاحبثِ الأرضَ تعامل الآخرين بدونية واستعلاء ، إلى جانب الصراع المتكرر بين المزراعين والرعاة في المراعي .
رابعاً المشاركة السياسية : وهذا خطاُ الحكوماتِ والاحزاب ويتمثلُ ذلك في التعاملِ مع الشعب على أساسِ القبيلةِ وتوزيعِ المناصبِ والوظائفِ لارضاء القبيلة ، وينشأُ من هذا الصراع داخل القبيلة الواحدة أو بين القبيلتين المشتركتين في المنطقة الواحدة بسبب توزيع المكاسب الدنيوية الزائلة وتقسيم الثروات، وكذلك قيامُ بعضِ الحكوماتِ بتجييشِ قبائلَ ضدَ قبائلٍ أخرى اختلفت معها في الرأي أو تمردت عليها .
أما الأحزابُ فهى غالباً تتأسسُ على منظورٍ جهويٍ وقبلي ولهذا تجدُ مجموعاتٍ قبيلة محددة تنتمي لحزبٍ معين ، وأخرى لحزبٍ آخر وتقومُ الأحزابُ بتزكية الصراعِ لكسبِ دوائرَ جغرافيةٍ أو لإزلالِ الآخرين فيقومُ كلُّ حزبٍ بتسليحِ وتحريضِ أتباعِه .
بالإضافة إلى بعض المكونات السياسية والاجتماعية التي تستفيد من صناعةِ الحروب إما للكسب المادي أو السياسي أو تنميةً للعنصرية البغيضة .
خامساًعدمُ وجودِ العقوباتِ الرادعة : الملاحظ في معالجة الصراعات القبلية تعتمد على الأعراف التقليدية والمؤتمرات التصالحية وهو منهج لصناعة لصلح مؤقت وتراضي زائف وحل مرحلي سرعان ما تتجدد آلة القتل ، وهذا تخدير لا يمنع الجريمة بل يشجع على الصراع لأن عمليةَ جبرِ الضرر ليست عقوبة رادعة فهى تقوم على تكامل بين الدولة والإدارات الأهلية ويتمُّ دفع الديات والتعويضات مع اسقاط العدد المتساوي ، يعني إذا إذا كانَ عدد القتلى لكل قبيلةٍ مائةَ قتيل يقومُ العرفُ بجبر المئة قتيل بالمئة قتيل وتسقط الدية ، أو ّاذ قتلت القبيلة الأولى مائتين والثانية مائة ، تدفعُ القبيلةُ التي قتلت مائتين دية مائة قتيل للقبيلة الأخرى وتسقط دية مائة نفس ، ويبقى القاتل حراً وأهل المقتولِ في حسرتهم تائهون ، وحينما جعل الله القِصاصَ في القتلى لأن فيه حياة للأحياء وردعٌ للمجرم وإطفاء جزوةِ الانتقام لدى أولياء الدم وإذا عفو وسامحوا خيرٌ يخفف الألم ويجعلُ المعفيَّ عنه تائبٌ بعد أن كان في رحمةِ أولياء الدم وعَرِفَ قيمة العفو ، بخلاف إذا الأمر عرفياً يقول القاتل سنقتلهم ويدفع أهلنا الدية ، والصحيح أن يتمَّ إحالةِ القاتلين للقضاء دون تدخلٍ من الأعيان ويكونُ العرفُ للصلحِ بين القبيلتين دون الجزاء
هذه بعض الأسباب والدوافع التي صنعت هذه الآهة المدمرة في جسد الوطن العزيز ،و نواصل في العمود القادم كيف نستأصل هذا الورم الخبيث ليتعافى الجسد الجريح .

إنضم الى مجموعتنا على الواتس آب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى