أعمدة

*مصطفى أبو العزائم* يكتب في (بُعْدٌ .. و..مسافة)..*و.. على ابن الجنوب ضميت ضلوعي..!*

رحم الله الفنان الكبير (العميد) “أحمد المصطفى”، ورحم الله شاعرنا الراحل المقيم ، الضابط العظيم “عبد المنعم عبد الحي ، عندما كتب الأخير لمدينة أم درمان وعنها ، وغنى لها الأوّل ، واحدة من أغنياته الخالدة (أنا أم درمان) .
“عبد المنعم عبد الحي” نموذج لمواطن (وادي النيل) فأصوله تعود إلى جنوب السودان ، وهو من مواليد مدينة “أم درمان” لأبوين ينتميان إلى إحدى أكبر القبائل النيلية والأفريقية ، وهي قبيلة ” الدينكا ” وهي في الأصل عند أهلها ” دينقا ” نسبة لجدهم الأكبر ” دينق ” ، و قد درس شاعرنا الكبير المرحلتين الأولية والوسطى في أم درمان ، ليغادر إلى مصر ويلتحق بحلوان الثانوية هناك ، وينضم إلى الكلية الحربية المصرية ويتخرّج ضابطاً في الجيش المصري ، ويتزوّج من سيّدة مصريّة فاضلة ، أنجب منها عدداً من الأبناء والبنات ، وقد أستشهد إثنان من أبنائه في حروب مصر مع إسرائيل ، إذ استشهد الأول في حرب يونيو 1967 م ، والثاني في حرب أكتوبر 1973 م ، وكانا ضابطين في الجيش المصري.. وقد توفيّ شاعرنا الكبير عام 1975 م ، ودفن في مصر التي أحبها وفداها بروحه وبنيه .
كتب “ عبدالمنعم عبد الحي” شعراً جذلاً رقيقاً، ضمّنه حبّه وشوقه لأم درمان مثل (أنا أم درمان) لأحمد المصطفى ، و( نار البعد والغربة ) للفنان الكبير ، الراحل المقيم “ حمد الريح ” ، و أغنية (على ربى أم درمان) لمحمد الحويج ، و (المامبو السّوداني) لسيد خليفة ، وهذه الأغنية بالذات كانت إنطلاقة فنية كبيرة للراحل سيد خليفة ، إذ تغنّى بها في فيلم ” تمر حنة ” الذي يعتبر أحد أروع الأفلام المصرية الإستعراضية ، من إنتاج عام 1957 م ، ومن إخراج و تأليف حسين فوزي لعب أدوار البطولة فيه نعيمة عاكف وفايزة أحمد وأحمد رمزي ورشدي أباظة.
وقد كتب شاعرنا الكبير عدداً غيرها من الأغنيات عظيمة لفنانين كبار مثل الراحلين “إبراهيم الكاشف” و”حسن عطية” و”عبيد الطيب” و”عثمان حسين” و”محمد حسنين” و”إبراهيم عوض” و”عبد الدافع عثمان” وغيرهم.
استمعت إلى مذكرات هذا الشاعر الكبير من خلال تسجيلات إذاعية بركن السودان في “القاهرة” ضمن سلسلة حوارات مطلوّلة أجراها معه الإذاعي والإعلامي المصري الضخم الصديق العزيز ومحب السّودان العظيم ، الأستاذ “فؤاد عمر” – رحمه الله – ثم إطّلعت على تلك المذكرات أو الذكريات مدوّنة في كتاب كان هو تفريغاً لتلك الحوارات ، و قد خلصت إلى أن الراحل المقيم الشاعر الكبير “عبد المنعم عبد الحي” هو النموذج المتقدّم والمرجو لإنسان أو مواطن وادي النيل الكبير .
في زمان سابق تحسس بعض أشقائنا من أبناء جنوب السودان من أغنية ( أنا أم درمان ) لأن المُغنّي يقول : ” أنا ابن الشمال سكنتو قلبي .. وعلى ابن الجنوب ضميت ضلوعي.. ” وأخذ ذلك البعض (يتفلسف) في تفسير كلمات الأغنية ، ويحتج على أن (القلب) لأبناء الشمال ، في الوقت الذي أصبح فيه (ما بين ضلوعي) لأبناء الجنوب ، وهي تفسيرات تؤكد على مثلنا القديم (يغني المغني وكلٌ على هواه) أو كما قالت العرب قديماً : “ كلٌ يغني على ليلاه ” . ولم يكن المحتجّون يعلمون أن الشاعر جنوبي ، بل من أبوين من قبيلة الدينكا !
نعلم إن لأبناء جنوب السودان حساسية مفرطة في نظرتهم للأحداث أو تقديراتهم للواقع قبل الإنفصال ، لذلك تمرّدوا وقابل كثيرٌ منهم المعاملة الخاصة من أشقائهم في الشمال بغير ما يستحق هؤلاء الأشقاء ، وظنّوا أن تلك المعاملة الخاصة نابعة من ضعف لدى أبناء الشمال – وتنامت تلك العقدة في نفوس الساسة والطبقة المتعلمة ، وأخذوا يغذّون بذور الحقد والكراهية حتى تنمو في نفوس أبناء الجنوب لمجابهة الشمال الظالم الباطش المستعبد ، إلى آخر تلك الأوصاف والنعوت الرديئة والسيئة ، لذلك عندما جاءت لحظة الاستفتاء والمفاضلة بين البقاء في حضن الوطن الكبير أو الإنفصال ، اختاروا الإنفصال ، وأسموه (استقلالاً) !
لم تفكر إلا قلةٌ قليلة من النُخَب السّياسيّة ، والقيادات الجنوبية بالعقلية التي كان يفكر بها الشاعر العظيم “عبد المنعم عبد الحي”، لقد آثرت النُخَب الجنوبية أن تسجن عقولها داخل مرارات مُتوهّمَة ، وإضطهاد مُتخيّل ، وتمييز غير موجود في أرض الواقع .. لذلك جاء الإنفصال بإرادة شعبية واسعة وعريضة لا نشك فيها ، ولكن أصبح كل الجنوب أمام امتحان صعب ، ويوم الامتحان – كما نقول دائماً – يكرم المرء أو يهان.. وإنكشف بعد إمتحان الإنفصال زيف دعاوى النُخَب التي أرهبوا بها العامة ، وعاد ( إبن الجنوب ) ليعيش بين ضلوع السّودان القديم ، كأنما هو يقوم بعملية إستفتاء عكسي للوحدة أو الإنفصال ، ولكن هيهات .
لماذا لا يكون مشروعنا الكبير القادم في شطري الوطن العزيز ، هو العمل من أجل عودة الوحدة من جديد ( ؟ ) … إن حدث هذا ، وإنطلقت هذه الدعوة من القادة والسّياسيين لربح الجميع ، وأعلن من منبري هذا أنني سأكون مع أي حزب أو جماعة ، أو تنظيم يدعو لوحدة السّودان .. كفانا شتاتاً وفرقة وتشرذماً .

إنضم الى مجموعتنا على الواتس آب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى