محمد عثمان إبراهيم يفجر اخطر المعلومات.. كيف يعمل مكتب حمدوك؟
في سبتمبر ٢٠١٩م أبلغ مكتب رئيس الوزراء بشكل مباشر ودون إخطار وزارة الخارجية، السفير البريطاني حينئذٍ عرفان صديق باستدعائه للقاء رئيس الوزراء وحضر للقاء الذي لم يشهده أي موظف من الدائرة الأوروبية المعنية بشئون العلاقات مع المملكة المتحدة كما تقتضي الأصول. فاجأ رئيس الوزراء ضيفه بطلب لتوفير مساعدة لإعادة هيكلة مكتب رئيس الوزراء وتوفير المساعدات الفنية لما تمت تسميته بالـ”الاتصال الاستراتيجي” وهي طريقة المنظمات الغربية والمؤسسات الدولية في إطلاق أسماء براقة (Fancy names) على أشياء لا ترغب في الكشف عن فحواها مثل الأمم المتحدة التي كانت تستأجر المليشيات المتمردة لحماية عناصرها في الصومال وتسميهم في مستنداتها “التقنيون” أو (Technicals)، وكان الاجتماع دون محضر رسمي يسلم لوزارة الخارجية أو جهاز المخابرات أو غيرها من المؤسسات المعنية بالمتابعة.
أعرب السفير عرفان عن استعداده المبدئي للمساعدة وهو ما تم لاحقاً عبر مجموعة من الاحتيالات الإدارية الأوروبية التي تقول الشيء وتفعل أي شيء.
علمت وزارة الخارجية بالمصادفة بخطة رئيس الوزراء من خلال السفير البريطاني الذي التقى دبلوماسياً رفيعاً بالوزارة – حسب وثيقة حكومية تحت يدي- وأبلغه بفحوى الطلب.
***
من يدفع للزمار وكيف يختار اللحن؟
تمت الموافقة على مشروع الاتحاد الأوروبي لدعم مكتب رئيس الوزراء في السودان بتكلفة تبلغ ٧ ملايين يورو مخصومة على “الصندوق الإئتماني الطارئ للاستقرار ومخاطبة الأسباب الجذرية للهجرة غير النظامية والنازحين في أفريقيا” ويمكن للقارئ أن يلاحظ الفرق بين الاسم البراق هنا والمهمة المقصودة.
حملت وثيقة المشروع إشارات بأن هدف المشروع هو التنمية بالمشاركة وجودة الحكم للحصول على السلام والعدالة والمؤسسات القوية.
ذكرت الوثيقة أن الهدف الكبير للمشروع هو المساهمة في الانتقال الديمقراطي في السودان، بينما الهدف الخاص هو تقوية مكتب رئيس الوزراء، ولم تنس الوثيقة أن تؤكد أن هذا المشروع أتى استجابة لطلب مكتوب من رئيس الوزراء السوداني. ترى هل تصرف الدكتور حمدوك في هذا الأمر بموجب قرار من مجلس الوزراء الذي يرأسه وبالتشاور مع وزارات الخارجية والمالية وشئون مجلس الوزراء والأجهزة ذات العلاقة أم تصرف -كعادته- من وراء ظهر مؤسسات الحكومة الانتقالية، بذات الطريقة التي طلب بها تشكيل بعثة من الأمم المتحدة وهي التي تم تشكيلها تحت اسم يونيتاميس وباشرت أعمالها بالفعل؟
ما هي علاقة الاتحاد الأوروبي بمكتب رئيس الوزراء؟
أكدت وثيقة المشروع على أنه يأتي متسقاً مع خطة فاليتا “خطة أوروبية لمواجهة الهجرة إلى بلدانها تم التوصل إليها في عام ٢٠١٥م وتم بعدها اعتماد السودان كشريك مع الاتحاد الأوروبي في الخطة”، وأضافت الوثيقة أن الهدف الاستراتيجي للخطة هو جودة الحكم، ودرء الصراعات، وتخفيض النزوح القهري والهجرة غير النظامية، وبالطبع لم توضح الوثيقة كيف يمكن للـ٧ ملايين يورو التي سيتم إنفاق جزء منها لاحقاً ضمن منظومة للفساد الإداري والمالي أن تحقق هذه الأهداف العجيبة!
في ذكر الأسباب المنطقية للمشروع، وصف الممولون السودان بأنه كان يعيش تحت حكم تسلطي امتد لثلاثة عقود ولكنهم تجاهلوا حقيقة أن خطة فاليتا نفسها التي يتوقع لهذا المشروع خدمتها قد تم توقيعها مع ذلك النظام التسلطي وحصل مقابلها على ما يزيد عن الـ١٠٠ مليون يورو وليس سبعة ملايين فقط “يعلم الأوروبيون جيداً أين ذهبت تلك الأموال ويغضون الطرف” وتأسس عليها ما سمي في الأدبيات الأوروبية بـ”(عملية الخرطوم” لمواجهة الهجرة من دول القرن الأفريقي.
***
كيف تدفع الأموال الغربية لمكتب رئيس وزراء السودان وما هي حدود تصرفه فيها؟
أوضح المشروع أن النتيجة المتوقعة هي أن يؤدي مكتب رئيس الوزراء عمله بشكل فعال في بيئة مواتية، ولم يوضح المشروع ما إذا يقصد فعالية المكتب بالنسبة لتحقيق أهداف الشعب السوداني أم أهداف الاتحاد الأوروبي وهو الراجح وفقاً لنظرية أن من يدفع للزمار هو الذي يختار اللحن.
لستُ في شك من أمري أن مكتب رئيس الوزراء قد نجح إلى حد كبير في تحقيق أهداف الاتحاد الأوروبي وحلفائه، وفشل في تحقيق أي هدف من أهداف الشعب السوداني. كان الأداء في مكتب رئيس الوزراء مضطرباً، والفوضى ضاربة في ردهاته، والتنافس مشتعل على أشده، والصراع محتدم فوق كل تصور.
في مجال الإعلام كان هناك سكرتير صحفي، ومستشار إعلامي، وموظفة للاتصال يعملون دون تنسيق فيما بينهم، بل بتنافس وتآمر على ذات النمط الذي قرأناه في الأدب المستلهم من حكايات راسبوتين. في ذلك الخضم تم تعيين موظفة ذات خبرة رفيعة في الإعلام والاتصال المؤسسي لقيادة العمل الإعلامي بواسطة ذات الجهة الأجنبية المكلفة بالتعاقد مع موظفي المكتب، لكنها غادرت مكانها بعد أقل من أسبوعين وكالعادة لم يعلن أي شيء عن استقالتها أو فصلها.
ما هي أهداف ممولي عمل مكتب رئيس الوزراء وما هي الأنشطة المسموح بها؟
قرر المشروع أن يتم تعيين ما بين ١٢-١٥ يتم دفع رواتبهم (محددة كرواتب ثابتة ليس فيها ساعات إضافية أو رواتب إضافية عن العمل أيام العطلات) بواسطة جهة يتم التعاقد معها بواسطة الاتحاد الأوروبي. هذه الفقرة تحسم الجدل حول رواتب العاملين التي كان يتلقاها الموظفون وهم بهذا البند موظفون لدى الاتحاد الأوروبي، وليس لدى حكومة السودان ولا يتقاضون رواتبهم من ميزانية الفصل الأول من وزارة المالية وبالتالي فهم غير محاسبين أمام حكومة السودان ولا يحق لها مساءلتهم أو الحصول على تقارير منهم أو ترقيتهم أو فصلهم.
ومع هذا الوضوح فإن لهؤلاء الموظفين التابعين لجهة أجنبية الحق في الاطلاع على ملفات الحكومة السودانية وأسرارها ومعلناتها، واتخاذ الكثير من القرارات فيها، وتوجيه الوزراء نقلاً عن رئيس الوزراء أو اجتهاداً منهم دون وجه حق ودون أن تعترضهم الشرطة أو الأجهزة الأمنية. لقد ظل ذلك الفريق يعبث في قلب الجهاز التنفيذي السوداني دون مسوغ واحد ودون حصوله على تعيين رسمي وفق النظم المعمول بها، ودون مراجعة ملفات أفراده والتحقق من سيرتهم وصحائفهم الجنائية (الفيش) كأول دولة مستقلة في العالم يعمل في مكتب رئيس حكومتها فريق كامل لا يتبع للحكومة وغير خاضع لها.
بالإضافة للفريق الذي كان يضم الشيخ الخضر، ونائبه أمجد فريد والمجموعة التي عرفت بـ(شلة المزرعة) وهي المجموعة التي حازت على نفوذ واسع دون أن تكون خاضعة للمحاسبة بسبب عدم تعيينها رسمياً. إضافة إلى هؤلاء كان هناك عدد من صغار الموظفين والإعلاميين ونشطاء الفيسبوك وتويتر إضافة إلى منتدبين من جهات أخرى دولية مثل المستشار آدم الحريكة والسيدة عائشة البرير وآخرين.
في خضم تلك الفوضى أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتنمية (UNDP) عن وظيفة مستشار لشئون النوع في مكتب رئيس وزراء جمهورية السودان، وبعد تداول الخبر في وسائل التواصل الاجتماعي بين استهجان وعدم تصديق تم سحب الخبر لكن الكثيرين، ومنهم كاتب هذا المقال، احتاطوا بنسخة من ذلك الإعلان الغريب! لم تعد حكومة السودان هي الجهة المخدمة في مكتب رئيس الوزراء وصار الديوان الكبير وكالة دونما بواب للمنظمات الغربية لتقوم بتعيين من تشاء في الوظيفة التي تشاء ثم تلحقهم بمكتب الرئيس السعيد.
***
بالإضافة لتمويل رواتب الموظفين سيقوم الصندوق بتمويل ٤ مؤتمرات إضافة الى التكفل بنفقات السفر لكن وثيقة المشروع لم توضح من هم المشمولون بهذه المكرمة.
تم تحديد المهام المطلوب من موظفي المكتب القيام بها فيما يلي:
الحوكمة السياسية وإصلاح الخدمة المدنية، الحوكمة المؤسسية والضبط المالي والقانوني، والتواصل المدني وشئون ما بعد الصراع، إضافة إلى ضرورة أن يضم المكتب خبراء في تقنية المعلومات و(رصد بيانات الدولة)، ومفكرين أمميين في مجالات الانتقال السياسي والاقتصادي، وخبراء في التفاوض في صناعة التعدين، والاندماج الإقليمي، و(إعادة هندسة الدولة) والقطاع العام، ومسوحات الرأي العام وغير ذلك. من الواضح أن هذه المهام جميعها تصب في صالح الاتحاد الأوروبي الذي وجد الفرصة التاريخية المواتية لشراء الصندوق الأسود للدولة السودانية كلها بمبلغ ٧ ملايين دولار. يلاحظ أيضاً أن جميع هذه المهام تعني إنشاء أجهزة ضرار وموازية لأجهزة قائمة فعلاً مثل الإحصاء ووزارات المالية والعدل والخارجية والاتصالات والمعلومات وغيرها.
لتأكيد التبعية المباشرة فإن على مكتب رئيس الوزراء إرسال تقارير شهرية عن المهام التي تم إنجازها من بين القائمة أعلاه، وبالطبع فإن هناك صيغة متفق عليها لكتابة هذه التقارير حتى يسهل إدخالها في بنوك المعلومات وتحليلها.
تحتوي وثيقة المشروع على بيانات كثيرة متنوعة يجدر بالصحف ووسائل الإعلام التوفر على ترجمتها ما دام مكتب رئيس الوزراء يود الاحتفاظ بها سراً وبالرغم من قيام الاتحاد الأوروبي بنشرها وفق نظمه، فإن مؤسسات وزارة الإعلام، ووكالة سونا، والتلفزيون والإذاعة القوميين قد استنكفوا عن تناولها وتقديمها للرأي العام حتى يعرف من يحكمه.
تشير الوثيقة إلى أن خطر تشبث العسكريين بالسلطة يظل خطراً ماثلاً بصورة كبيرة، وأن على الاتحاد الأوروبي تقوية المدنيين والحرص على الحفاظ على التوازن بين الطرفين، إضافة إلى الحذر من تدهور الوضع الاقتصادي بصورة كبيرة بحيث لا يمكن استخدام ذلك كذريعة للانقضاض على السلطة، وهو ما يفسر قيام الصناديق الدولية بتوفير مبلغ قد يصل إلى المليار ونصف المليار دولار عن طريق برنامج الغذاء العالمي لتوزيعها على المواطنين بشكل مباشر، بحيث لا تتحقق الاستفادة العامة من هذه المبالغ في تمويل مشروعات تنموية تدر دخلاً وتوفر وظائف، لكنها قد تنجح في تخدير المواطن ومنعه من التظاهر بغية إسقاط الحكومة.
من الواضح أن المجتمع الدولي (الغرب) يعمل وفق استراتيجية من خطين متجانسين تضمن الأولى تقوية الحكومة المدنية المضمونة الولاء برئاسة حمدوك وتحييد العسكريين (البرهان وحميدتي) لحين انتهاء المرحلة الأولى من خطة السيطرة. إذا نجحت المرحلة الأولى سيتم إعلان المرحلة الثانية وهي تفكيك تحالف المصلحة الحالي بين القوتين العسكريتين (الجيش والدعم السريع) لصالح أحد الطرفين أيهما أكثر قبولاً بمشروع التحالف مع عبد العزيز الحلو، لكن هذا ليس ضمن أجندة مقالنا هذا.
يضم المشروع فقرات عن المساواة الجندرية والحكم الراشد ومعالجة آثار التحول المناخي وغيرها من أدبيات العبث الدولية لكن الأهم بعد ذلك هو آليات التقييم والمراجعة حيث يحق للممول إرسال بعثات منتظمة للتفتيش والمراجعة وفق نظمها، وهذا يعني بشكل صريح حق هذه البعثات في الاطلاع على الوثائق واستجواب العاملين بشكل لا تحفظ فيه.