(تأملات) ..جمال عنقرة .. الخالة زينب إدريس.. كرم الحياة والممات
الخالة زينب إدريس حمد التي اختارها الله إلى جواره الليلة الأخيرة من ليالي شهر رمضان المبارك، في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم المنورة، وتم قبرها في البقيع مع أصحاب رسول الله الكريم، أقول لها “الخالة” مجازا ذلك أنها خالة رفيقة عمري أم خالد الأستاذة نجوي عوض الكريم حمزة، مباشرة، ولكن في الحساب والنسب فأنا جد لها، فجدها لوالدتها أحمد عبد الكريم، ابن عمنا حيث أن جدنا الأمير النور عنقرة خال له، وأخوه عبد المجيد كان متزوجا من عمتنا الأميرة فاطمة “أم قليم” بنت الأمير النور عنقرة، وهي والدة أخينا جعفر حلقة الربط الأقوي بيننا وبين أهلنا الجموعية، ومما يحكي أن الأمير النور عنقرة عندما زوج ابنته فاطمة لعمنا عبد المجيد الذي كان يعمل في ضرب العملة، وصناعة السيوف والرماح في المهدية، لم يرض ذلك الخليفة عبد الله الذي كان متزوجا من إحدي بنات الأمير فقال “النور يعادلني مع الحداد” فلما وصل الكلام للأمير قال لهم قولوا للخليفة “الحداد ود أختى وهو أولي بالنسب منك”.
وأن يتزوج إنسان إمرأة هو في النسب خال أو عم لها، وأحيانا جد، أمر مألوف في السودان – قديما وحديثا – ويؤصل له السودانيون بالقول “بت عماك لو فاتتك عرس بنتها” وعندنا في الأسرة شائع، فمثلا ابن عمتنا مكة بت النور، أخونا بدوي عبيد بشارة والد الإعلامي الرياضي الرشيد بدوي، وشقيقه العميد شرطة عبد الرحمن بدوي ضابط الجمارك العظيم المعروف، زوجته ليلي الصادق هو في الحساب عمها، فوالدها الصادق أمه عمتنا الشول بت النور، فكان أبناء الصادق الآخرون يقولون له “عم بدوي” وهو زوج شقيقتهم، وهم اخوال ابنائه، وتكرر الأمر حديثا عندما تزوج ابن اختى ست ام سلمة عزالدين، ابنة أخيه يوسف ابن اختنا “حرم الطويلة” اضطر حسين أن يقول ليوسف “عم يوسف” إكراما للنسب الذي صار بينهما، رغم أنه في الحساب أخاه ابن خالته.
والخالة زينب التي اختار الله لها ميتة صارت حديث كل أهل المدينة المنورة، لا بد أن نتحدث عن حياتها قبل مماتها، لا سيما وأن ذلك يستقيم مع حديثين مهمين، أحدهما حديث للشيخ الترابي يرحمه الله عن ليلة القدر تداولته وسائط الميديا الأيام الأخيرة لرمضان، وانتقد فيه تفكير بعض الناس الذين يتسكعون العام كله، فإذا حانت أيام ليلة القدر تمنوا علي الله الأماني، والثاني حديث اليوم لأحد شباب الأشراف الأدارسة صلي بنا اليوم صلاة عيد الفطر المبارك في خلوة القاضي الكتيابي في حي الركابية الامدرماني العريق بغير إعداد ولا إستعداد، ولكنه بهر المصلين بخطبة مرتجلة محكمة، ذات معان ودلالات، وتحدث عن ذات الموضوع التواكل والركون إلى حظ يبتسم في ليلة القدر، وما قاله الشيخ الترابي له الرحمة والمغفرة، والشريف الإدريسي بارك الله فيه، ترجمة حقيقية لحديث الرسول صلي الله عليه وسلم “الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمني علي الله الأماني” وخاتمة الخالة زينب التي صارت حديث الناس ظلت تعمل لها عمرها كله الذي قارب التسعين عاما.
الخالة زينب من أسرة ممتدة جدا، متسعة ومتوسعة، ومتشعبة، فبنات جدها لوالدتها ابن عمنا أحمد عبد الكريم تزوجن من خيار القوم، فوالدتها الحاجة بتول لها الرحمة والمغفرة تزوجها شيخ الصاغة وكبير الحداحيد إدريس حمد إدريس “كاجوك” وهو الذى صنع سيف الإمام المهدي الذي اهداه السيد عبد الرحمن لملكة بريطانيا، وصنع أيضا السيف الذي اهداه السيد عبد الرحمن للملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود، وصنع سيف الأمير النور عنقرة المشهور، الذي انطبقت عليه يده، وابنته زينب تزوجها السيد دفع الله شبيكة، والد الشاعر المرهف الدكتور علي شبيكة، والدكتور يوسف شبيكة وإخوانهما، وابنته فاطمة تزوجها أخ دفع الله شبيكة لوالدته الحسن وداعة الله، وهي والدة المهندس المشهور المرحوم عبد المنعم أحد بناة نهضة دولة الإمارات العربية المتحدة مع المهندس أحمد عوض الكريم، وابنه عبد الكريم تزوج زينب ابنة دفع شبيكة من زوجته الأولى، وهو والد أستاذ الأجيال مبارك عبد الكريم، والصحفي الرياضي الموسوعي محمد فرح عبد الكريم، والامدرماني القح الفاتح، وابنه علي انتشرت ذريته، فابنه أحمد سار في درب أهله الصاغة، الذي خلفه فيه إبنه عبد الكريم، بينما سار ابناه كمال وعلي، علي درب خالهم مبارك وخالتهم آمنة، فصارا من أبرز المعلمين في أم درمان، وتزوجت ابنته السارة من الجنرال سعد عمر خضر، وهي والدة الأطباء المشهورين الزين ومصطفي يرحمهما الله، وسامي وفايزة اختصاصية التخدير الأشهر في السودان، وإخوانهم، وأخواتهم، وابنته فاطمة “اللولي” تزوجها المادح المشهور عبد الوهاب الخمجان، والد الدكتور محمد المهدي وإخوانه وأخواته. أما شقيقات زينب يرحمها الله فلقد زوجهن والدهن من عظام القوم، فشقيتها الأكبر ست البنات تزوجها أستاذ الرؤساء الشيخ عوض الكريم حمزة، الذي درس الرئيسين الزعيم إسماعيل الأزهري، والمشير جعفر محمد نميري يرحمهم الله، وأذكر أن الرئيس نميري عندما علم أنني متزوج من ابنة الأستاذ عوض الكريم، قال لي إنه لم يهب أحد في حياته مثلما كان يهاب الأستاذ عوض الكريم حمزة، وقال أنهم كانوا يعملون حسابا حتى لحماره الأبيض، ومن أبناء ست البنات مولانا عصام عوض الكريم القاضي المعروف، وشقيقه الطاهر المقيم في أمريكا، وابنته سكينة زوجها الشيخ موسي الأحمدي البدوي المرازقي، وانجب منها إبنه أحمد البدوي، وهو الآن الحفيد الأكبر للشيخ موسي الكبير مؤسس الطريقة، وابنته حليمة زوجها محمود الشيخ من أكبر اسر الجموعية الزنارخة، وهو عم السفيرة الراحلة المقيمة عايدة عبد المجيد الشيخ، زوجة السفير مجدي أحمد طه، وابنته آسيا زوجها الشريف مختار أحمد شيخنا الموريتاني السعودي، ولما توفيت خلف له بشقيقتها الأصغر حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب، وجدتهم الأكبر عائشة بت حامد تربطهم بأسر كثيرة عريقة، آل شداد، وال ابو شامة، وال عبد الرحمن مختار، وال الدرديري، وال ابودقن،وغيرهم من مشاهير وكبري أسر البديرية والركابية في السودان.
أشهد، والله علي ما أقول شهيد، أن زينب يرحمها الله كانت افضلنا جميعا علي الإطلاق – احياء وامواتا – جمعت وحدها بين كل الخصال الحميدة، والخصائل الفاضلة، كانت كريمة، هاشة باشة، مضيافة، صبوحة، وصباح خير، وكانت تقرض الشعر مثل والدتها، وكثيرين من أهلها، ظلت لأكثر من سبعين عاما تخدم رواد مجلس الصلاة علي النبي بدائل الخيرات التي اسسها والدها في داره العامرة وخصص لها مكانا عزيزاً في بيته العامر عام ١٩٠٨م، هذه الدار روادها خلال تلك الأعوام التي تجاوزت المائة بنحو خمسة عشر عاما، يأتون كل يوم جمعة صباحا، يقرأون دلائل الخيرات، ثم يتناولون ما لذ وطاب من الطعام والشراب علي مائدة الإفطار، ثم يدار بينهم الشاي والقهوة حتى يحين موعد صلاة الجمعة، وظلت زينب يرحمها الله أساس هذه الخدمات لنحو سبعين عاما تقريبا، كانت تعاونها في الأول شقيقاتها آمنة وحليمة وسكينة وست البنات، وبعد رحيلهن لهن الرحمة والمغفرة، صارت تساعدها شقيتها ميمونة “النور في عيونها” إحدي ركائز ديوان الحسابات بوزارة المالية، وابنة أختها حليمة، منى محمود نسأل الله أن يلهمهن الصبر الجميل، فلقد كانتا الالصق بزينب والأقرب إليها لها الرحمة والمغفرة.
الخالة زينب أو “ميمي” كما كان يناديها ابني خالد في صغره، يرحمها الله كانت ذاكرة، وتالية للقرآن، كانت حريصة جدا علي متابعة برنامج التجويد التلفزيوني الذي يقدمه الشيخ أيمن السويدي، وبعد ذلك تقضي وقتا طويلا في تطبيق ما تتعلمه من أحكام، ولما توفي شقيقها الأصغر منها مباشرة صديق “بابكر الصديق” الرمز المجتمعي الأشهر في حي الركابية، واحد قادة الخدمة المدنية المعروفين، فلما توفي قبل نحو ثلاثة شهور تقريبا تأثرت تأثرا شديدا، وكانت شديدة الارتباط به، وازدادت زهدا في الحياة الدنيا، وصارت تعد نفسها ليوم الرحيل، فرفعت معدل التلاوة اليومي عندها من ثلاثة أجزاء إلى عشرة، فبعد أن كانت تختم القرآن الكريم ثلاث مرات في الشهر، صارت تختمه كل ثلاثة أيام، ولما دخل شهر رجب بدأت صياما لم تقطعه حتى دخول شهر رمضان، رغم أنها كانت تعاني من ضمور في إحدي الكليتين، ومع بداية شهر رمضان اتصل الطاهر عوض الكريم ابن شقيقتها ست البنات، واقترح أن تسافر العمرة، فرحبت بالفكرة واشترطت أن ترافقها ابنة اختها “نجوي” الأكثر صبرا علي مرافقتها وممارضتها، فاتصلت بأخي الحبيب علي إدريس صاحب ومدير وكالة الأوائل للسفر والسياحة، الذي يتعبد بخدمة الناس، ويعتبر خدمات الحج والعمرة قربي لله تعالي، قبل أن تكون تجارة، فبدأ بهما تسجيل فوج مميز وأضاف إليهما أميرة ابنة أخي خالد، وابنتها سلمي محمد عبد الباسط، وكمل عليهم من بعض اصفيائه، وأذكر يوم السفر عندما سألها حفيدي أبو يعلي سعيد نصر، نجل ابنتي سارة، والذي كانت تحبه ويحبها، فلما سألها “بترجعوا متين؟” قالت له “أنا تاني ما راجعة” فبكت وبكي، دون أن يعر ذلك أحد اهتماما، واذكر عندما قلت لها المدة اسبوعان، وأن العودة يوم ٢٩ رمضان، قالت ما تخلونا نقعد شوية راجعين لشنو، ولما وصلت مكة المكرمة، ووفقها الله لأداء العمرة أصابها بعض الاعياء والتعب، فسالتني نجوي عن إمكانية العودة قبل التاريخ المحدد، افادني علي إدريس بوجود حجز مساء ذات اليوم، ويمكن كذلك فجر اليوم الذي يليه، فلما اخبرتها نجوي بذلك قالت لها “نسافر السودان ولا المدينة!؟” فلما علمت بذلك صرفت النظر عن فكرة العودة للسودان تماما، وركزت علي السفر إلى المدينة، ووافقتني علي ذلك نجوي، وابناؤها خالد وسارة ويسرا الذين شاورتهم في الأمر واتفق معنا الأخ علي إدريس ورتب لهم سفرا للمدينة قبل الفوج، ولكنها اختارت ألا تفارق صاحباتها في الغرفة، السيدة نجوي المصرفية الإنسانة ورفيقاتها الاخريات، وفي اليوم التاسع والعشرين من أيام رمضان كان مقررا أن يتحركوا الساعة العاشرة مساء من المدينة إلى مطار جدة للعودة إلى السودان، وفي ظهر نفس اليوم أصيبت بحالة إسهال غير طبيعية، حتى افرغت كل ما في بطنها، وعجزت عن الحركة تماما، وصار الهم الأكبر كيف يمكن أن تحتمل مشوار الطريق من المدينة إلى مطار جدة، وهو يستغرق أكثر من خمس ساعات، وانتظرنا الفرج من الله تعالي، وكان قد اتاهم في الفندق الأبناء الداودي وعادل إبراهيم “السريو” وبينما هم في هذه الحيرة، يسترد الله تعالي أمانته، ويقبض روحها الطاهرة إليه في تلك الليلة المباركة آخر أيام الشهر الكريم، فاكرم به من ختام، لحياة كانت كلها كريمة، كانت كلها إستعدادا ليوم الرحيل، نسأل الله لها الرحمة والمغفرة وان يسكنها فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.