(تأملات) .. جمال عنقرة الرئيس نميري .. نسيج وحده

تعود محبو ومناصرو ومؤيدو الرئيس الراحل المشير جعفر محمد نميري، أن يحيوا ذكراه في شهر مايو من كل عام، وشهر مايو كان شهرا محببا للرئيس الراحل، وكما هو معلوم فإن حكم نميري للسودان بدأ في الخامس والعشرين من شهر مايو عام ١٩٦٩م، عندما قاد الضباط الأحرار من خور عمر في ذاك اليوم، مدعوما بتاييد من الحزب الشيوعي السوداني، ومجموعات القوميين العرب واستولواعلي السلطة، ولم تتوقف الإحتفالات إحياء بذكري الرئيس نميري في كل الظروف والأحوال، وأعتقد أن أفضل تدشين لإحياء ذكري الرئيس نميري هو ما فعله نائب رئيس مجلس السيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو “حميدتي” واعني شهادته التي ادلي بها في معايدة حاكم إقليم دارفور القائد منى أركو مناوي، وكان حميدتي قد قال “الرئيس نميري كان كارب قاشو، ولو قام من قبره سوف نسلمه الحكم وننسحب” وقديما قالوا “مليحة شهدت لها ضراتها .. والفضل ما شهدت به الأعداء” وأي شهادة أقوي من شهادة نائب رئيس حالي في رئيس سابق.
وليس لما قال به السيد حميدتي، ولكنني تعودت أن أكتب عن نميري في كل شهر مايو من كل عام، ويعلم كثيرون أني كنت قريبا منه، وكانت تجمعني معه وشائج وصلات عدة، وكنت قد كتبت كتابا، ونشرت منه طبعتين عامي ١٩٩١م، و٢٠٠٨م، بعنوان “أيام مع نميري .. أسرار ومواقف” وكان الرئيس يرحمه الله قد دفع لي بتفريغ لتسجيلات كثيرة لذكرياته ومذكراته أعدت صياغتها، واعددتها لتصير كتابا بعنوان “هكذا تكلم جعفر نميري” ولما عدت إلى السودان قبله، أعدت له تلك الأوراق، إلا أن ابن خاله الأقرب إليه صديقنا الواثق عبد الله صالح، أعادها لي مرة ثانية بعد وفاة الرئيس، واعد الا تعود ذكري مايو مرة أخري دون أن تري هذه المذكرات النور بإذن الله تعالي.
واختار في هذا العام بعضا من المواقف العامة والخاصة للرئيس نميري، والتي تؤكد أنه ليس “كارب قاشو” فقط كما قال السيد حميدتي، ولكنه كان نسيج وحده، وكان قد جمع من فضائل الخصال ومكارم الأخلاق ما لم يجتمع عند كثيرين غيره، وكان نميري ولد بلد أصيل، شامخا، عالي الهمة، كريم الطبع، عزيز النفس، لم يهن ولم يسهل عليه الهوان.
لم أجد شخصا واثقا بنفسه مثل الرئيس نميري، وهذا الصفة – الثقة بالنفس – جعلته يختار وزراءه من أكفأ أهل السودان، فهو لا يخشي أن يغطي عليه أحد، أو يخطف الأضواء عنه، فلم يدع الرئيس نميري شخصا مؤهلا إلا استعان به، ونذكر علي سبيل المثال لا الحصر، البروفيسور النذير دفع الله، البروفيسور عبد الرحمن العاقب، البروفيسور عبد الله أحمد عبد الله، الدكتور مامون بحيري، السيد بدر الدين سليمان، السيد إبراهيم منعم منصور، الدكتور حسن عبد الله الترابي، البروفيسور عون الشريف قاسم، البروفيسور أحمد عبد الحليم، السيد أحمد إبراهيم دريج، السيد حامد علي شاش، السيد عبد الرحيم محمود، السيد مهدي مصطفي الهادي، المهندس بابكر علي التوم، والقائمة تطول.
مما يحمد للرئيس نميري أنه عندما تكونت الجبهة الوطنية المعارضة لنظامه، وغادر قادة المعارضة البلاد لمناهضة نظامه، وقيادة المعركة ضده، أوصي النميري بتسفير أسر قادة المعارضة للحاق بازواجهم وابائهم حتى لا يتعرضن للفتن من بعدهم، وشهد نائبه سعادة اللواء عمر محمد الطيب أنه عندما نقل له خبر وفاة زعيم المعارضة الشريف حسين الهندي، نهض واقفا، وقال “أمانة ما مات راجل” ثم قرأ الفاتحة علي روحه الطاهرة، وأمر باستقبال جثمانه، ومواراته الثري جوار والده الشريف يوسف الشريف محمد الأمين الهندي.
يحفظ له الناس أنه تحدث باسي شديد عن شهداء الانتفاضة الوطنية المسلحة في يوم الجمعة الثاني من شهر يوليو عام ١٩٧٦م، فقال “للأسف الشديد عندما دخلنا دار الهاتف وجدنا الذين قتلوا فلذات اكبادنا طلاب جامعة الخرطوم” لذلك عندما عرض عليه الراحل المقيم الرجل الوطني الصادق الغيور فتح الرحمن البشير، مقابلة الإمام الراحل السيد الصادق المهدي لابرام مصالحة مع الجبهة الوطنية، لم يتردد لحظة، ويحفظ للسيد الصادق المهدي أنه أيضا لم يتردد، وجاء لمقابلة الرئيس نميري في البحر الأحمر رغم أنه كان محكوما عليه بالإعدام، لكنه جاء من أجل الوطن، ولأنه كان يعلم أن نميري رجل لا يغدر ولا يخون، فكانت المصالحة الوطنية في العام ١٩٧٧م، والتي لو أحسن السياسيون استثمارها لما كان حال السودان هو حاله اليوم، ولكن قدر الله وما شاء الله فعل.
كان الرئيس نميري يرحمه الله تعالي يتعامل مع الرؤساء الإقليميين والعالميين بندية، وأحيانا بتعال، ويحكي أنه ذهب ذات مرة إلى زيارة دولة عربية، وعندما شاهد وهو علي سلم الطائرة أن الذي حضر لاستقباله لم يكن الرجل الأول في الدولة عاد مرة أخري إلى داخل الطائرة، وأمر كابتن الطائرة بالعودة فورا إلى الخرطوم، فاضطر الرجل الأول في تلك الدولة للحضور سريعا للمطار لاستقبال نميري، ولولا أن تزويد الطائرة بالوقود استغرق بعض الوقت لما أدرك الرجل الأول الرئيس نميري.
عندما سقط نظام مايو في أبريل عام ١٩٨٥م، تفاجأ المعارضون أن نميري لم يأخذ شيئآ من مال الدولة لشخصه، بل كان يتنازل عن كل هدية تصله إلى حكومة السودان، ومنها البيت الذي اشتراه له الشيخ زايد يرحمه الله في لندن ليكون سكنا له، سجله باسم حكومة السودان، وعندما تم توزيع حي العودة “المهندسين” حاليا لضباط القوات المسلحة، وكانت درجاته الأقل بين كل الضباط، إلى أن أضيفت له درجات رئاسة الجمهورية، مزق الاورنيك ولم يأخذ قطعة سكن، والأرض التي ورثها عن والده في قلب مدينة دنقلا بمساحة ١٢ فدان، تبرع بها لحكومة السودان لتقيم عليها مستشفي خيري تخصصي، ومات نميري وشيع من بيت زوجته الحاجة بثينة يرحمها الله الذي ورثته من والدها، ولم يترك لها نميري ورثة غير مسدس من الذهب الخالص تبرعت به قبل وفاتها للمتحف الحربي.
أذكر عندما كنت ملازما له أثناء إقامته في القاهرة في خواتيم ثمانينيات القرن الماضي، قبل مجيء نظام الإنقاذ، مستشارا إعلاميا وسياسيا، كان يخصص يوميا ما بين ساعتين إلى ثلاث ساعات يزور فيهم المرضي من السودانيين الذين كانوا يأتون إلى مصر مستشفين، وكنت ارافقه في كل هذه الزيارات، ولم يكن يخرج من مريض قبل أن يقدم له مساهمة، ولو قليلة.
الرحمة والمغفرة للرئيس الإنسان جعفر محمد نميري، ونسأل الله أن يسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، ونسأله تعالي أن يعين من يجلس مكانه، أن يكون مثله، أو قريبا منه، و”يكرب قاشو”