(أسى ما اعتيادي) .. بقلم- ضياء الدين بلال
في الطريق إلى مطار الخرطوم، متوجهين إلى أديس أبابا، صباح ذلك الخميس، كان عليَّ التَّأكُّد من صِحَّة الخبر.
رسالةٌ من موبايل المرحوم سعد الدين إبراهيم، على موبايل الصديق الطاهر التوم، كانت تنقل خبر وفاة الكاتب الكبير.
أخبرني الطاهر بالخبر المُفجع. قبل أن نصل معاً إلى المطار، قلت له: لا بد من التأكد من صحة المعلومة في عالم الواتساب ورواج الشائعات. لم نعد نثق في أخبار الموت.
اتصلت برقم سعد الدين، والساعة تُقارب السادسة موعد إقلاع الطائرة، ودقَّات قلبي تتسارع، كنت أدعو الله في سرِّي أن يردّ عليَّ الرجل صاحب الصوت الهامس الوديع: (سلامات يا ديدي)، هكذا كان يناديني مُلاطفاً في كُلِّ مرَّة تكون بيننا مُقابلة أو مُكالمة هاتفيَّة.
جاءني صوت ابنه محمد باكياً، ليُؤكِّد صِحَّة ما تمنيته أن يكون شائعة. رحل الأستاذ سعد الدين إبراهيم، بكُلِّ روعته في الكتابة الصحفية ونظم الشعر والأنس اللطيف.
في بدايتنا الصحافيَّة، ونحن نحبو في بلاط صاحبة الجلالة، كنتُ أتابع بشغف كتابات الراحل في الصحف، وبمجلة الملتقى، حيث كان يُحرِّر زاوية تحملُ عنوان (مونولوج صحفي)، وهو نوع من الكتابة لم يكن متوفراً في الصحافة السودانية والمجلات، يُعنى بتناول الظواهر الاجتماعية، وكان يتناول تلك المواضيع بجُرأة وحسٍّ اجتماعيٍّ رفيع.
في ذلك الزمان غير البعيد، كنت أُتابع من غرفة الأولاد الطرفيَّة بمنزل الأسرة، في حي المزاد بالمناقل، سلسلة حلقات درامية في الإذاعة السودانية، تحمل عنوان (حكاية من حلتنا)، أروع ما قُدِّمَ في إذاعة أم درمان من أعمال درامية، طوال فترة الثمانينيات إلى منتصف التسعينيات. حكايات من الواقع السوداني، تُلامس برفقٍ إبداعيٍّ رشيق كثيراً من القضايا والمواضيع الحسَّاسة المُعتقلة في غُرف المسكوت عنه.
لم يجذبني عملٌ دراميٌّ إذاعيٌّ مثل ما كانت تفعل بي سلسلة (حكاية من حلتنا)، وكُنت أبلغ قمة التَّوتر حينما ينقطع الإرسال أثناء الحلقة أو يحدث تشويشٌ بصوت المذياع.
كنتُ في ذلك الزمان مُعجباً بثلاثي الإبداع في الصحف السيارة، ومجلة الملتقى، وهم عبد المنعم قطبي وعبد اللطيف البوني وسعد الدين إبراهيم، ثلاثتهم أسهموا في اكتشاف كثير من المواهب الإعلامية.
تجمع بينهم أوجه شبه متعددة، في الشكل والمضمون وروح المرح واللطف.
كان الأستاذ سعد الدين مبدعاً صميماً متعددَّ المواهب، يجمع بين البساطة والعمق والسهولة والامتناع.
كانت سعادتي لا تُوصف ولا تُحدُّ في صدفة من الزمان في مُستهلِّ التسعينيات، حينما وجدته إلى جواري بالحافلة المُتوجِّهة من المحطة الوسطى بحري إلى ميدان أبو جنزير. كنت أتمنَّى أن يبطئ الوقت في وصول الحافلة إلى المحطة الأخيرة، وظللت أتحدث بإيقاع سريع مع سعد الدين وأقفز من موضوع لآخر، والكاتب الكبير يستمع إلى هذا المبتدئ الثرثار بصبرٍ وتواضعٍ جميلٍ.
عندما أكملت دخولي لعالم الصحافة، وتدرَّجت فيها، توطَّدت علاقتي بالأستاذ سعد الدين، كُنَّا نقضي ساعاتٍ طوالاً في حوار ماتع بلا حدود ولا سقف، في الشعر والصحافة والدراما وسير المُبدعين.
فوجئت بذخيرة الرجل من المعلومات والقصص والحكايات، كُنت في كل مرة أطلب منه أن يقرأ لي بصوته الهامس:
العزيزة الما بتسأل عن ظروفنا
الوحيدة الطال عشان جيتك وقوفنا
العزيزة الما بتسأل عن ظروفنا
الوحيدة الما بتحاول يوم تشوفنا
المواعيد لسة حزنانة بتنادي
والأماسي بتبكي في أسى ما اعتيادي
ما كنتي بهجتا براوئع قوس قزح
تلك القصيدة التي سمَّاها صديقي الحبيب أبو حباب محمد عبد القادر النشيد الوطني للعُشَّاق.. وكنت أُلِحُّ عليه بأن يحدثني عن تلك المحبوبة التي أهدت الحمام برتقالة.
عن حبيبتي أنا حأحكي ليكم
ضل ضفايرا ملتقانا
شدُّوا أوتار الضلوع
أنا بحكي ليكم عن حنانا
مرة غنت عن هوانا
فرّحت كل الحزاني
قبل سنواتٍ، كانت بدايتي المُنتظمة في تقديم البرامج الحوارية عبر قناة الشروق، في برنامج (فوق العادة). وجدت تشجيعاً كبيراً من سعد الدين في عموده المقروء، وكان يحتفظ بملاحظاته النقدية ليُسديها لي في الاتصالات الهاتفيَّة والرسائل، ويقترح لي ضيوفاً للبرنامج.
قبل أسبوعين من وفاته، وجدت سعد الدين في مناسبة زواج الأخ الحبيب طارق شريف؛ فذهبت إليه مهرولاً بفرح طفولي، وجدت نفسي أُقبِّلُ رأسه على غير عادتي في مواددة الكبار.
كانت تلك القبلة آخر تعبير لي عن حبي وإعجابي به كمبدع استثنائي وإنسان شفيف.
لك الرحمة والمغفرة، أستاذي الجليل سعد الدين إبراهيم، وأنت “تشوف آخرتها” بإذنه تعالى، خيراً ونعيماً عميماً، وجَعَلَ قبرك روضةً من رياض الجنة.
:::اعادة نشر في ذكرى رحيله.