*البشير : هذا يليق بك بقلم: د. إبراهيم الصديق على
(1)
في ذلك اليوم ٢٩ مارس ٢٠٠٩م، كانت أعين كثيرة مصوبة للسماء في مطار الدوحة العاصمة القطرية ، الكاميرات تتزاحم ، هواتف وإتصالات ، وجوه حائرة وأخرى وجلي، ولأول مرة تتحول بروتوكولات الإستقبال الباردة الهامسة إلى ضجيج وتكبير وهتاف حين حطت طائرة رئيس الجمهورية عمر حسن احمد البشير لشهود القمة العربية، فقد كانت تلك صفحة جديدة في العلاقات الدولية، لقد صفع البشير مخططات دولية لحصار الدول وتركيع الشعوب وهزم آلية (الإستعمار الحديث)، ولذلك شغل الحدث العالم، و أستقبلته بفرح قلوب عامرة بالبحث عن تحرير الإرادة وإثبات الذات وإستقلال القرار.. تلك رحلة أمتدت ٣٠ عاماً، واحدثت إنقلاباً في موازيين السياسة والعلاقات الدولية وترجيح مصالح الشعوب..
لقد زار الرئيس البشير القاهرة يوم ٢٥ مارس وزار إريتريا يوم ٢٣ مارس من ذات العالم، ولكنه عبوره أجواء تسيطر عليها الاساطيل الدولية كان حدثاً عبر عن شخصية وعن إرادة لا تعرف الإنكسار والإنحناء في وجه العواصف أو المساومة في قضايا الوطن والمبادئ..
(2)
في العام ٢٠٠٥م، وخلال مقابلة مع تلفزيون السودان، طلب محامي عربي متخصص في المحكمة الجنائية حديث (تحت الهواء) وقال للزملاء : إن قرار مجلس الأمن ١٥٩٣ خطير جداً على السودان ووحدته وتماسكه، بلغوا ذلك للقيادة السودانية، وانا تحدثت هنا مع سفير السودان) ..
وحين أعددت بحث أكاديمي وأستغرقت في الشبكة العنكبوتية، تراءت لي خيوط متداخلة، جمعتها في ورقة صغيرة، وهيأ لي الأخ محمد حاتم سليمان جلسة مع د. نافع علي نافع والفريق صلاح قوش وآخرين وقلت لهم، هناك مؤشرات تدل على أن الرئيس مستهدف بمؤامرة دولية.. قلت كل مبرراتي وتركت الورقة بين يديهم وخرجت..
لم يكن إستهداف البشير لشخصه فحسب، وإنما ما يمثله.. وليس لأنه قيادة إسلامية، فهو لم يكن الأمير أو الشيخ.. وإنما تلك النزعة في الإرادة وإستقلال القرار والحس الوطني.. ولذلك أستهدفوه..
(3)
بعد ساعات، من إعلان بيان ٣٠ يونيو ١٩٨٩م، هبطت في مطار الخرطوم طائرة مصرية، لم تحمل وفداً رسمياً، وإنما السيد مكرم محمد احمد نقيب الصحفيين المصريين ، وألتقي البشير وحاوره ، بحث في إجاباته، ونظر في وجهه ولاحظ حركاته وسكناته وتعليقاته وتشبيهاته، وخرج بإنطباع واحد (هذا رجل الوطني)..
وكذلك كان البشير طيلة فترة حكمه ينظر لوطنه وبلاده، لم تشغله اي هواجس أخرى، وحين جاء إليه وفد الثلاثة في صباح ١١ أبريل ٢٠١٩م، قال لهم (أبقوا عشرة على الشريعة والوطن، وانزعوا أجهزة البث من الحاجة)، في تلك اللحظة الفارقة كانت الرؤية عنده واضحة والحس الإنساني قائم.. هكذا القادة لا تهزهم الحادِثاتِ.. وقد أصطبر على معارك كثيرة، والسودان محاصر، وحشود عسكرية في جنوبه وشرقه وشماله وغربه، ولكنه قاد أمته بجسارة فقد كان يدرك أن الوصول للمعالي في القمم وليس الإنحناء ومسايرة أجندة مريبة..
(4)
في نوفمبر ٢٠١٨م، كانت طائرة وزير النقل الكيني تهبط في الخرطوم، مع رسالة واحدة، أفتحوا مجال السودان الجوي للطيران الكيني للعبور إلى تل أبيب مباشرة، ولكن البشير يرفض..
– ضربوا مصنع اليرموك، لمنع الخرطوم من دعم خيار المقاومة الفلسطينية.. ولكن البشير يرفض.. (هذه قضية إسلامية وعربية لا نساوم فيها)..
– أقترحوا عليه، سحب الجنود من اليمن، بعد إستقبال فاتر في السعودية ، ولكن البشير يرفض، (نحن هناك لقضية أمن السعودية دولة إسلامية عزيزة ولأمن الحرمين الشريفين وأمن البحر الأحمر..)
– قاد كل مبادرة لتعزيز العلاقات الأفريقية وتوسيع التعاون.. كان السودان رقماً في كل محفل، وأختفت تلك المقولة البائسة (رجل أفريقيا المريض)، أصبح السودان الأسرع تنمية وزيادة في الناتج القومي.. إرادة التحرر..
(6)
وقفت هناك فحسب، شارع الوادي بامدرمان الثورة، حشود جماهيرية متدافعة، هتافات تتعالى، حالة ما بين الإعزاز والمحبة والعزم، رجال يغرزون أقدامهم أمام سيارات عسكرية، أمهات يزغردن ويهتفن، شباب يتدافعون، هكذا جاءوا بلا وعد ولا ترتيب ولا تنظيم، وإنما لحظة قادتها المشاعر الوطنية..
ومن بين الحشود يبرز البشير، يلوح للجموع، أحسست بحرارة الدمع، سرقتني دون إنتباهة..
تلك أمسية ٨ مارس ٢٠٠٨م بعد إعلان أوكامبو.. هكذا البشير في وجدان شعبه وأهله، إنه مشروع (عزة وكبرياء)..
– ذات المشاعر انتابتني في المشاعر المقدمة، حين أطل البشير والطيب ابراهيم ، تعالت هتافات الحجاج، نسوا سوء معسكرهم ومرارة حالهم، وألتفوا في لحظة فخر، و تكاثفت جموع الحجيج من بلدان شتى، وانا في دهشتي تلك ، يهز كتفي حاج عربي (من هذا الذي تهتفون له؟)، هذا الرئيس البشير؟.. صاح بإندهاش (معقول..).. من غيره وقف أمام شعبه وخاطبهم في ميادين وساحات ومواقع إنتاج ومخيمات، زار مريضهم وعزى في فقيدهم وشاركهم الأفراح في القاعات والمنازل..
– لهذا كان البشير محط الإهتمام الدولي والمخططات الكثيفة، َلكنه صمد، لإنه يمثل أنفاس كل شهيد وروح كل عامل ونقاء كل صالح ووضاءة الوطن وفخر المواطن.. عزيز بوطنه وفخور بأهله وكما قالت الشاعرة روضة:
يا موطني
لو كنتُ خُنتُكَ
لاستحيتْ!
لو بِعتُ صدقكَ
بالتقاريرِ الكذوبةِ
والنفاقِ المحضِ يوماً
لاستحيتْ
لو كان لي وطنٌ سوى عينيكَ
أيضاً لاستحيتْ!
لو أنَّني
ساومتُ في السوقِ الحرامِ عليكَ
بعتُ أو اشتريتْ
لتبرأتْ نفسي لأجلِ هواكَ
من نفسي
لكنتُ ذبحتُني
ولما اشتفيتْ!
لكنَّني
والله يا وطنَ الكرامِ
-وأنت تدري-
لم أكنْ إلا كما ربَّيتني
وكما اشتهيتْ
.. هذا ما يليق بك أخي البشير
لن تعتقلك المحابس فقد سما كسبك وعلا سهمك ..
(7)
طوى البشير بحسرة، علم السودان الواحد في نوفمبر ٢٠١١م ، فقد اوفي العهد والموثق ، ولم يكن هناك بد وقد اختار اهل الجنوب تكوين دولة مستقلة ، حارب حين اقتضي الأمر ذلك، و قاتل بالسونكي بعد نفاد ذخيرته، قدم شقيقه شهيداً، لحق بخاله العميد مختار محمدين ورحل نائبه الشهيد الزبير محمد صالح، والعزيز على نفسه الشهيد إبراهيم شمس الدين وآخرين ، ودافع عن وحدة بلاده وهو قائد، توسع الحكم الإتحادي، انفتحت أبواب السلام، قدمت نماذج، ولكنه خيار اهل الجنوب ومضوا، فالاوفق جوار متصالح وسلام.. هكذا الخيارات الوطنية الكبيرة، مع مرارة الأمر فإن القادة لا يركنون لوساوس النفس..
(8)
(لا أعرف كيف أكتسبوا هذا الخبرة، ولكنهم رجال دولة من اول لحظة)، هكذا تعبير احد رموز العمل الوطني السوداني، وقد عاصر ايام الإنقاذ الأولى ، ترتيب، نقاشات ذات مستوى عال، إدارة إجتماعات، إستخلاص نتائج وتوصيات، منهج متابعة ومقايسه.. كان هناك وزراء من التكنوقراط ووكلاء وزارات على مستوى عال، وخبراء، لم تأت الإنقاذ لإلغاء احد او إقصاء خبراء، كان هناك السفير على سحلول، الوزير والخبير الإعلامي على شمو، والمهندس والخبير كمال على وآخرين..
– جاء العميد (عمر حسن) من احراش أويل إلى الخرطوم ليكون رئيساً وقائداً للتغيير، دون إعداد، دون تدريب، دون تلقين، وعبر كل ذلك، إنها فطرة مركوزة وغريزة نقية وتربية متينة..
(9)
لقد وضعت بصمتك في وجه الزمان، ثبات على المبادئ ومواقف تليق بك وبوطننا.. وحققت عطاء أعجز حصرهم ، ناهيك عن مجاراته..
– ثورة وعي من ٥ جامعات إلى أكثر من ١٥٠ جامعة (٧٠ جامعة منها حكومية)، وزاد عدد قبول الجامعات من ٥ الف إلى ٥٠٠ ألف سنوياً وطلاب الثانوي من ١٠٠ ألف إلى ٢ مليون و٣٠٠ ألف وتوسيع تعليم الأساس وتطورت جودة التعليم..
– ازداد إنتاج الكهرباء من ٤٠٠ ميقاواط إلى ٤٢٠٠ ميقاواط، اقتضي بناء سدود وتعلية أخرى وجلب ماكينات حديثة.. وبأسعار معقولة، لإن الطاقة اساس التنمية، واليوم تراجع كل شيء..
– وتطورت خدمات الصحة وأزدادت المؤسسات بنسبة تتجاوز ٥٠٠٪ ، بل تم توفير علاج مجاني للسرطان وغسيل الكلى واطفال حديثي الولادة حتى عمر ٥ سنوات وغيره كثير، والآن إيجاد الدواء مع غلاء أسعاره محنة..
– ما تم من طرق و جسور في عام واحد يتجاوز كل ما تم في السودان منذ الإستقلال وحتى ١٩٨٩م، وطريق واحد من بورتسودان إلى عطبرة وإلى الخرطوم وإلى بارا والأبيض والفاشر ونيالا وصولاً إلى الجنينة يؤكد همة الرجال والقدرة على العطاء.. ناهيك عن جسور الخرطوم..
لقد عجز (الادعياء) مع كل الدعم الخارجي والرهق على كاهل المواطن، أن يضيفوا (شبراً)، فقد كان الإنجاز يتطلب إرادة وكما قال المتنبي :
لا يدرك المجد إلا سيد فطن..
لما يشق على السادات فعال..
.. فقد كانت همتك الثريا وعززت المسير..
و نفوسهم هوان، فاكتفوا بالهياج والضجيج..
(10)
أذكر إستشهادك بابيات الشاعر صلاح أحمد إبراهيم :
ما الذي اقسى من الموت؟ فهذا قد كشفنا سره..
واستسغنا مره
صدئت آلاته فينا ولا زلنا نعافر
ما جزعنا ان تشهانا ولم يرض الرحيل..
فله فينا اغتباق واصطباح ومقيل..
آخر العمر قصير ام طويل
كفن من طرف السوق وشبر في المقابر
ما علينا..
ما عليك، فلا السجن يضيرك، فقد حرموك النظر لوجهك أمك الحاجة هدية في مهدها الأخير ووداع أخيك د. عبدالله وإلقاء نظرة على رفيقة دربك فاطمة خالد، لا يهمك، هذه أقسى طاقاتهم ومراد نفوسهم المتوحشة، فقد استقر مقامك في وجدان شعبك وامتك.. ومهما حاولوا فإن (٣٠ يونيو يبقى لك ولإخوتك ولشعبك ولوطنك وللتاريخ)..
ونسأل الله أن يتقبل منك وفك الله أسرك واخوانك.. والسلام