النيل يكتب نهاية التاريخ للعلاقات السودانية المصرية بروفيسور صلاح محمد إبراهيم
كتبت د. أماني الطويل بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بصحيفة الأهرام على حسابها في (فيسبوك ) ، “أن مصر إذا لم تدعم ترؤس المدنيين للمجلس السيادي وتكوين حكومة مدنية كاملة الصلاحيات ، فإن نظام البشير ( الإخوان) على مرمى حجر من السلطة”، لا اظن أن هناك خلاف حول مدنية مجلس الوزراء ، وربما الجدل هو حول صلاحيات وتكوين مجلس السيادة ، ولكن ما لفت نظري حول هذا الموضوع هو غياب مصر عن اللجنة الرباعية المكونة من كل من المملكة المتحدة ، المملكة العربية السعودية ، الولايات المتحدة الأميركية ودولة الإمارات العربية المتحدة، التي تقوم بجهود للتقريب بين الفرقاء السودانيين بمنزل السفير السعودي، ويبرز السؤال عن سبب هذا الغياب ، وهل هو برغبة مصرية أم لاعتبارات أخرى فرضتها الحساسيات التاريخية بين بعض الجهات التي تحمل أيديولوجيات أو مواقف تاريخية قديمة تجاه مصر عفا عليها الزمن وتجاوزها العصر؟
اظن أن معظم السودانيين لديهم ايمان عميق بأن مسار الدولة السودانية يظل في خطر وتحيط به مهددات في كل الأوقات التي كانت تبتعد فيه أو يتم فيه ابعاد مصر عن السودان بفعل جهات خارجية ، فالسودانيين ليس لهم ملاذ آمن بخلاف مصر ، والدليل هو التدفق الهائل لهم كل يوم إلى ارض الكنانة ، التي تحتضن ملايين السودانيين الذين يقيمون بصفة دائمة بخلاف عشرات وسائل النقل البري والجوي التي تغادر السودان كل يوم إلى مصر، وهم خليط من عامة الناس والسياسيين والقادة من مؤيدين أو معارضين لحكومة في الخرطوم في أوقات مختلفة منذ عشرات السنين. الوجود السوداني في مصر لا يعادله وجود سوداني في كل دول المهجر مجتمعة، لذلك كان مصدر استغرابي أن تتغيب مصر عن الرباعية، حتى إذا ما كان ذلك برغبة منها أو لتقديرات وحسابات أخرى.
تصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي تقول أن مصر مع اختيار الشعب السوداني وعدم التدخل في الشأن الداخلي للسودان ، مع تقديم كل الدعم في كل ازمة يمر بها السودان ، كما أن سفير مصر في الخرطوم له علاقات متوازنة مع كل الأطراف السودانية ، ومئات أو ملايين العائلات السودانية ذات جذور تاريخية مع مصر ، وهي علاقات قديمة في التاريخ، حيث سبق أن كتب عمر اتول التركي الجنسية الذي عمل ممثلاً للأمم المتحدة في الخرطوم في بداية الألفية الثانية في كتابه الضخم عن الثورة المهدية ( Bones on The Nile) ، أن قوات المهدي عندما اقتحمت الخرطوم ، كانت يعيش فيها منذ التركية السابقة حوالي 5000 اسرة مصرية ، وهو عدد كبير بمقياس ذلك الزمان ، خاصة وأن معظم القبائل المحلية كانت تسكن في ضواحي الخرطوم وليس قرب النيل ، وهو ما أكده صمويل بيكر عندما عبر ملتقى النيلين بعد منتصف القرن التاسع عشر ، حيث كتب أنه لم يجد غير عدد قليل من صيادي الأسماك في ذلك الموقع، لذلك هذه البعد التاريخي في العلاقات السودانية المصرية يؤكد حتمية الدور المصري المصيري في مجريات الأحداث في السودان ، فالخرطوم قد تأسست وجرى فيها العمران منذ عصر ممتاز باشا حكمدار السودان في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، حيث وصف احد الرحالة الإغريق كما ورد في بعض المصادر أن الخرطوم اوشكت أن تنافس القاهرة بشوارعها النظيفة ومبانيها الجديدة ، وهو قول في إشارة إلى حركة التنمية والعمران.
علاقة مصر بالسودان ليس كل ما اشرنا إليه ، بل هي لعبت دوراً مؤثراً وحاسماً في تاريخ السودان الحديث منذ فترة الحكم الذاتي والنظرة الجديدة للضباط الأحرار في مصر بعد ثورة يوليو للسودان والتي غيرت من مسار علاقات البلدين وكانت بداية مرحلة جديدة تقوم على الاحترام للسيادة الوطنية ، تحملت مصر ميزانية تنمية السودان منذ بداية الحكم الثنائي في وقت كانت فيه بريطانيا تصدر قطن السودان إلى مصانع لانكشير ومانشستر ، ويقول ونجت باشا حاكم عام السودان ساخراً في رسائله أن بريطانيا لم تكن تدفع في السودان غير ثمن العلم البريطاني الذي كان ينتزعه بعد شق الأنفس من لندن ، والحقيقة أن كل أساتذة العلوم السياسية في السودان الذين درسوا في بريطانيا يؤكدون في اطروحاتهم العلمية أهمية الدور المصري في بناء السودان الحديث.
أن هذه العلاقة الممتدة منذ العصور القديمة مروراً بالعصر الحديث راسخة ومرتبط دون فكاك عبر هذا المجرى النيلي الذي ينقل الحياة والبشر بين البلدين فما هي الحساسيات أو الحسابات التي تجعل مصر خارج المنظومة الرباعية ، وإذا ما تفهمنا دور كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة في هذه اللجنة بحكم الكثير من المصالح المشتركة والدعم القوي الذي تقدمه الدولتان للسودان والسودانيين في المهجر ، فما هي طبيعة دور واشنطن ولندن في ظل الضعف الاقتصادي والتجاري وحتى السياسي الذي تشهده علاقات السودان مع الدولتين ، بل اللغة العدائية والتهديد تجاه الكثير من القضايا الداخلية ، وهذا لا يعني أن نقلل من وزنهما الدبلوماسي ، ولكن في الحالة السودانية اعتقد أن تأثير مصر على مجريات الأحداث في السودان امر لا يمكن تجاهله مهما كانت الاعتبارات ، فالأمن المائي للسودان مرتبط بالدولة المصرية منذ عصر محمد علي باشا ، والأمن القومي للسودان من المهددات الخارجية مرتبط بقدرة وإمكانيات الدولة المصرية الهائلة مقارنة بالسودان ، مثل ما كان السودان سنداً لمصر عندما استضاف الكلية الحربية السودانية في جبل الأولياء بعد النكسة عام 1967.
لا نريد أن نوجه أصابع الاتهام لجهة سياسية داخل السودان حول غياب الدور المصري عن الرباعية، ولكن من المؤكد أن الحزب الاتحادي الأصل لبس طرفاً في هذه الحسابات فمعروف موقفه ، ولكننا نشجع الأطراف الأخرى أن تعمل على تقدير أهمية الدور المصري في مثل حالة الانسداد السياسي التي يمر بها السودان، فبعد انفضاض ثامر الوسطاء والمبعوثين والمبادرات الأممية وغير الأممية ، وبيانات الترويكا وكل هذا الهيجان في الشارع ، فلن يتبقى إلا هذا الخيط النيلي الذي يعبر هذا الوادي فهو الذي سوف يكتب نهاية التاريخ للعلاقات السودانية المصرية لآنه هو الحقيقة الثابتة .