أعمدة

(بعْدٌ .. و .. مسَافَة) .. مصطفى ابوالعزائم .. أكتوبر .. ذكرى رحيل العقيد !

منذ انطلاقة الشرارة الأولى لما تعارفنا على تسميته بـ(ثورات الربيع العربي) كنت متوجساً من نتائجها المتوقعة ، لذلك كنت ضد التغيير العنيف ، خاصة في مصر ، ويشهد لنا بذلك ما كتبناه حول هذا الأمر في (بعد ومسافة) أيام الثورة على الرئيس الأسبق “حسني مبارك” ، بحسبان أن الرجل يعتبر من أبطال حرب أكتوبر 1973م التي مرت ذكراها قبل أسابيع ، وكان قائداً لسلاح الجو المصري ، لكن مع ذلك كُنّا نأمل في أن تحٍدُث بعض التنازلات من قبل القيادات الحاكمة في مصر ، وقبلها في تونس ثم ليبيا ، ومن بعدهم اليمن ، وكنا نشير إلى أن عدم حدوث ذلك يقود حتماً إلى فوضى مدمرة في تلك الأقطار الشقيقة ، تمتد آثارها إلى كل المنطقة ، ولم تخيب نتائج الأحداث توقعاتنا .
ظهرت تحالفات معلنة وأخرى سرّية لدعم ومساندة تلك الثورات ، وإستغل أصحاب الأجندة من ذوي الارتباطات بـ(النظام العالمي الجديد) ، إستغلوا الجماعات المتناحرة والثائرة لضرب الأنظمة القائمة ، ثم إستغلوها لاحقاً ليضرب بعضها بعضاً ، ولعل ليبيا هي النموذج الأمثل والحي لما ذهبنا إليه.
الآن نحن في شهر أكتوبر ، وهو شهر التحول الكبير في ليبيا عام 2011م ، وقد تم إغتيال العقيد معمر القذافي في العشرين منه عام 2011م ، وقد كان العقيد “معمر القذافي” – رحمه الله – نموذجاً حقيقياً للإستبداد والديكتاتورية ، ونموذجاً لأنظمة الرعب القائم على جنون الحاكم ، وعدم إيمانه إلا بما يعتقد مع عدم إعترافه بكل ( آخر) لا يوالي أو يبالي أو يسترشد بقيم ومفاهيم النظام ، حتى وإن كانت شاذة وغير مقبولة من العامة.
قابلت العقيد الراحل “معمر القذافي” عدة مرات ، وسبق لي العيش في ليبيا لمدة أربع سنوات متصلة إمتدت من العام 1989م وحتى العام 1992م ، تعرّفت خلالها على جماهيرية الخوف والرعب التي كنت أحمل لها في ذهني صورة مخالفة للواقع ، إذ كنت أظن – وبعض الظن إثم – أنها واحدة من جنان الله في أرضه ، لكنها كانت جحيماً لا يطيقه بشر سوي ، الناس في ذلك الجحيم كالسوائم ، تأكل وتشرب ولا تحلم ، وأصبح كل من رفع صوته بغير الهتاف المقدس: (الفاااااتح.. ثورة شعبية.. فااااتح) كل من رفع صوته بغير ذلك أو إحتج ، إعتبره “القذافي” وجماعته واحداً من الكلاب الضالة.
صورة العقيد “القذافي” في الواقع لا تختلف كثيراً عن الصورة التي يسوقها خصومه ، وقد شهدت – وهذه شهادة للتاريخ – في رحلة إلى “طرابلس” كنت خلالها ضمن وفد رئاسي ، ونحن داخل مقر سُكْنَى إقامة العقيد “القذافي” في (باب العزيزية) ، شهدت الرئيس السابق “عمر حسن أحمد البشير” يحتد في الحديث مع رئيس جهاز أمن النظام الليبي “عبد الله السنوسي” ، وبحضور العقيد “القذافي” ، بسبب نتائج محاولة غزو مدينة “أم درمان” من قبل حركة العدل والمساواة عام 2008م ، وقد ضم الوفد الرئاسي – وقتها – عدداً من المسؤولين السودانيين ، وضم الوفد من الصحفيين شخصي وزميلي الأستاذ أحمد البلال الطيب ، وبعثة التلفزيون ، وقد عجبت من أن العقيد القذافي لم ينبس ببنت شفة كما يقولون ، بما يؤكد إدارته ورعايته لذلك الحدث المؤسف.
بلادنا تضررت كثيراً من العقيد الراحل، وتمدّدت أحلامه عبر الحدود في محاولة للهيمنة الكاملة على كل المنطقة ، وكان الداعم الأكبر للمعارضة إبان حكم الرئيس الراحل “جعفر محمد نميري” – رحمه الله – بل كان الداعم الرئيس لكل الحركات المسلحة ، وكانت الأموال الليبية هي أساس حركة “قرنق” بعد أن استعان العقيد “القذافي” بصديقه الحميم “منغستو هايلي مريام” العدو الآخر لنظام الرئيس “نميري” الذي جعل من الأراضي الإثيوبية منصة لانطلاقة التمرد المسلح.
نحن الآن في شهر أكتوبر الذي تمر فيه الذكرى الحادية عشر لمقتل العقيد القذافي رحمه الله خلال الثورة الليبية التي حملت اسم ثورة 17 فبراير ، لكنها لم تكن الثورة الأولى التي حملت هذا الإسم ، فقد سبقتها إنتفاضة شعبية عارمة في ذات اليوم من العام 1987م بمدينة “بنغازي” – في عيد المولد النبوي الشريف عام 1407 هـ – حكمت فيها أجهزة النظام بالإعدام على تسعة من الشباب الليبي ، وقد تم نقل مشهد الإعدام عن طريق التلفزيون الليبي وسط هتافات هستيرية لزبانية النظام ، تتوعّد معارضيه بذات المصير.
.. و.. يا سبحان الله.. ظللت أتابع قناة تلفزيونية مؤيدة للنظام المباد في ليبيا، تحمل إسم وشعار (الجماهيرية) وتعتبر صوتاً لأشباح الماضي الذي حكم ليبيا منذ سبتمبر 1969م وحتى نهاية العقيد قتلاً على أيدي معارضيه في أكتوبر من العام 2011م ، ظللت أتابع هذه القناة مثلما أتابع قنوات معارضة كثيرة لأنظمة الحكم في بلادها ، ووجدت نفسي أردد في دواخلي بما بدأت به هذه الفقرة: (يا سبحان الله).. والسبب أن هذه القناة أخذت تستجدي مشاهديها من الثوار الشرفاء بأن يمدّوا لها يد العون حتى تتمكن من مواصلة البث والإرسال.. لقد نفد المال وبارت الفكرة .. وطارت السكرة.
ليت كل الديكتاتوريين يعون الدرس.. ولكن.. ما أكثر العبر.. وما أقل الإعتبار .

Email : sagraljidyan@gmail.com

إنضم الى مجموعتنا على الواتس آب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى