حكومة غير حزبية ودستور المحامين وأجندته الحزبية؟! .. بروفيسور صلاح محمد إبراهيم
تتصارع القوى السياسية السودانية حول عدد من المبادرات ودستور مختلف حوله أعدته اللجنة التيسيرية لنقابة المحامين ، صراع وخلافات وتبادل للاتهامات وحديث عن التخوين والعمالة الأجنبية ولجنة رباعية وبعثة أممية تتحركان بين مختلف الأطراف السودانية للتقريب بين الفرقاء، حلقة مفرغة تدور منذ أكثر من عام ، دون أن يتوقف عاقل يملك بعض الرشد السياسي ليسأل نفسه ، كيف يمكن لرئيس وزراء مستقل أو وزراء مستقلين أن يقبلوا العمل برشته حزبية معدة من قبل جهات حزبية وناقشتها أحزاب في ورش عمل ، وراجعتها أو شاركت في اعدادها جهات بمسميات حزبية ،توافق وطني أو مجلس مركزي أو تحالف ديمقراطي ، كيف يمكن لصاحب فكر مستقل غير حزبي القبول بالعمل بموجب وصفة حزبية معلبة أعدتها تنظيمات حزبية أو نقابية غير منتخبة أو مفوضة ، ومنقسمة على نفسها ؟ وكلها وصفات خاصة ما يعرف بدستور المحامين الذي به واجبات سياسية بها اجندة حزبية ومهام جدلية مختلف حولها بين القوى السياسية أين يوجد مثل هؤلاء التكنوقراط المستقلين الذين يقبلون تنفيذ الأجندة الحزبية التي اقحمت في دستور أو سمه ما شئت من المسميات ، لا شك أننا في مسرح عبثي لقوى سياسية غير مكتملة النضج أو الخبرة السياسية .
هناك تناقض واضح بين التصريحات التي تتحدث بين حكومة المستقلين غير الحزبيين ، وما تتصارع حوله الأحزاب أو القوى السياسية التي فشلت في حكومتين سابقتين منذ نجاح ثورة ديسمبر في التعامل مع الملفات التي تقول أنها ضرورية لتفكيك نظام الثلاثين من يونيو ، ومن الواضح أن الثورة السودانية قد ولدت قبل أوانها ولم تجد من يملكون النضج السياسي الكافي للتعامل مع الموقف ، وضيعوا وقتهم ووقت البلاد في دوامة خلافات حول مشروعات دساتير ومبادرات هي من صميم عمل الحكومات المنتخبة وليس حكومات الانتقال التي هي حكومات تصريف اعمال لفترة مؤقته ، حكومة بلا اجندة سياسية تقف على مسافة واحدة من كل الأطراف السياسية ، وتؤدي مهمتها بطريقة ترضي الجميع ، هدفها ترتيب الساحة السياسية بنزاهة وحيادية حبى قيام الانتخابات، أما الغوص عن مستقبل شكل الدولة السودانية وهوية هذه الدولة ومشروع السودان الجديد وهيكلة القوات المسلحة وغير ذلك من الشعارات الكبيرة ، لا اظن أن من يديرون المشهد السياسي الان يملكون حقاً قانونياً أو كفاءة لتحديد مستقبل الدول السودانية، استمع إلى البعض في بعض المؤتمرات الصحفية وكأنهم يتحدثون سودان لا نعرفه .
لقد تحدث القائد العام للقوات المسلحة بعيدا عن موقعه كرئيس للمجلس السيادي وفي مناسبات ذات طابع عسكري أن القوات المسلحة لن تسلم السلطة إلا لحكومة مستقلة غير حزبية ، وعلينا أن نعترف أنه بحكم الواقع أن القوات المسلحة ممثلة في القائد العام هي السلطة أو المؤسسة الوحيدة المتماسكة في الدولة اليوم والتي تحافظ على بقاء الدولة السودانية ، وطلبت من القوى السياسية أن تتوافق على اختيار حكومة أو رئيس وزراء يشكل حكومة مستقلة ، ولكن القوى السياسية غرقت في متاهات ودروب ليس لديها خبرة كافية للتعامل معها ، حالة من الشلل والارتباك سيطرت على المشهد السياسي بسبب غياب الكثير من السياسيين المخضرمين أو ابعادهم عن عمد ، أو بسبب الاستعجال للقفز إلى مقاعد السلطة كما حدث في حكومتي حمدوك ، لقد كان المطلوب منذ البداية الاتفاق على رئيس وزراء مستقل غير حزبي ليشكل حكومة لمدة قصيرة ، ولكن السياسيين بمختلف احزابهم رفضوا فيما يبدو ذلك الاتجاه في ظل اجندة حزبية وتحقيق طموحات متعددة لكل حزب مثل الحديث عن تفكيك نظام الثلاثين من يونيو ، وهو أمر يذكرنا بمقولة الصادق المهدي رحمه الله عندما تحدث عن ( كنس اثار مايو عام 1985) ، واذكر انني كتبت مقالا في صحيفة الصحافة قبل اعادتها للمرحوم عبد الرحمن مختار، أن ما افهمه عن كنس اثار مايو هو هدم قاعة الصداقة وقصر الشباب والأطفال ومبنى البرلمان ومصنع سكر كنانة ، ذلك لأن كل ما كان يمثله الإتحاد الاشتراكي كان قد سقط ما ثورة ابريل 1985، حتى قضايا البنوك وفسادها الذي كان يتردد في ذلك الوقت عجز النائب العام في وقتها السيد عبد المحمود الحاج صالح وهو من حزب الأمة عجز عن الوصول بها إلى نهايتها وتمت تسوية أوضاعها ، فمن هم الذين في مثل قامة وشخصية الراحل الصادق المهدي من السياسيين الذين يستطيعون فرض أجندتهم على الأخرين ، قضية التفكيك تعادل تماماً ما حدث بعد ثورة ابريل ، فقد سقط نظام الإنقاذ مع تجميد نشاط المؤتمر الوطني وايلولة ممتلكاته للحكومة ، وفي حالة ثورة أيريل لم تتمدد حكومة الدكتور الجزولي في ملاحقة كل الذين انتفعوا من نظام نميري وكثيرين منهم جمعوا الأموال وامتلكوا الأراضي بعضهم بحق واخرين بغير حق فيما يسمى الان بالرياض والطائف والمنشية وغيرها ، وطالت الاتهامات حتى الرئيس النميري وبعض وزرائه الذين ندم الكثيرون فيما بعد على ما قالوه عنهم بعد أن اتضح انهم فقراء معدمين لا يملكون مصاريف العلاج في المستشفيات.
فترات الانتقال لا تتحمل ولا تستحق كل هذا الجدل الذي اصبح خصماً على معيشة الناس وأمنهم ومستقبل الدولة بسبب قلة من الصفوة والسياسيين الذين لا يفهمون كيف تدار مراحل الانتقال ، لذلك يصبح الحديث عن حكومة مستقلين يتم اختيارهم لتنفيذ برامج احزاب او دستور مجموعة أحزاب أو مبادرات مثل هذا الحديث يدل على عدم الجدية في المضي إلى الأمام ، الوضع الطبيعي أنه كان من المفروض تجميد دستور 2005 المعدل ، وأن يتولى المجلس العسكري الانتقالي السلطة السيادية ، وتعيين رئيس وزراء ومجلس وزراء مدني مهمته الأولى والرئيسية الوصول إلى الانتخابات وأن تنصرف القوى السياسية لترتيب أوضاعها ، وكان على الأحزاب السودانية أن تستفيد من خبراتها السابقة في عدم قدرتها على التوافق ولها في تجربة حكومات الصادق المهدي المتعددة والقضايا الشائكة والمختلفة حولها مثل قضيتي الشريعة والسلام ، وما نتج عنها من انهيار للوضع الديمقراطي بأكمله في عام 1989.
حكومة المستقلين هي حكومة مهام محددة إدارة فترة الانتقال ، مراجعة قانون الانتخابات، تكوين مفوضية للانتخابات، والتعامل مع العالم بطريقة متوازنة، وفي ظل الفشل الي غرقت فيه البلاد على القوات المسلحة كمؤسسة قومية تقع مسؤولية الطلب من القوى السياسية ترشيح رئيس وزراء مستقل خلال أسبوع لا أكثر ، ليقوم بدوره بتشكيل الحكومة دون تدخل حزبي ، بخلاف ذلك لا أرى مخرجاً يلوح في الأفق.