لواء شرطة م عثمان صديق البدوي يكتب (قيد في الأحوال) .. هنا لندن !!
كانت إنطلاقة إذاعة (بي بي سي لندن) في يناير 1938 ، وكانت مصدر الخبر الأول في العالم الأفريقي والعربي ، لنقلها الأحداث السياسية على التو ، طازجة ، وبكل مصداقية وشفافية، وكانت البرامج الإقتصادية والثقافية والرياضية الممتعة الشّيِّقة ، كان أكثر ما يميز هذه الإذاعة هو دقات (بيغ بن) عند تقديم نشرة الأخبار ، وتشوُّق الناس للأحداث ، ويعقبها الصوت الجهور للمذيع قائلاً :
(هنا لندن)
وكان من أبرز الإعلاميين ،أحمد كمال سرور ، أول مذيع قدّم نشرة الأخبار ، وحسن الكرمي وبرنامج “قول على قول” والذي استمر زهاء الثلاثين عاما ، وعيسى الصباغ ، وماجد سرحان، وجميل عازر كمترجم ، ومقدم برامج ، والمذيعة مديحة المدفعي، وأفتيم قريطم مقدم البرامج الرياضية لمدة خمسة وأربعين عاما، والسوداني أيوب صديق أحد الأصوات التي نالت شهرة عالمية. إذاعة لندن كان يستمع لها أسبوعياً قرابة ال 360 مليون شخص.
قبل أيام ، أصدرت الحكومة البريطانية
قراراً يقضى بإيقاف هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي لندن” نهائياً ، إعتباراً من يوم الجمعة 27 يناير 2023 ، بعد خدمة إذاعية كبيرة فاقت الثمانين عاما ، متعللةً بالتكاليف الإذاعية التي أضحت باهظة ومكلفة. وبإغلاق استوديوهات الإذاعة البريطانية لندن تنطفئ أقدم شمعة إذاعية كانت تخاطب وجدان الشعب العربي .
هنا لندن ، هذه الإذاعة المتميزة، القديمة بقدم الزمان ، كان الشعب السوداني مولعاً بحبها، واحتلت نقل أهم الأحداث في ذاكرة الشعب السوداني أيام الحرب الإسرائيلية العربية في العام 1967، والتي عُرفت بحرب النكسة ، حين شنت إسرائيل حرباً شعواء على الشعب الفلسطيني والعرب ، وكان الناس وقتها يلتفون حول جهاز الراديو الذي كان يملكه البعض من أصحاب الدكاكين ، وكان العامّة يسمعونه من أمام تلك الدكاكين ، وكان من أشهر تلك الدكاكين التي يلتف حولها الناس لسماع إذاعة لندن في قريتنا “ساردية الشقالوة” هي دكان عبد القادر النخلي ، “دكان عقّاد”، و”دكان عبد الرسول” وهنا تحضرنا في تلك الأيام… أيام الحرب الإسرائيلية، قصة العم “العوض ود إدريس” رحمه الله، فقد كان مزارعاً أميّاً بسيطاً، لكنه لا تفوته نشرة أخبار المساء في إذاعة لندن أمام دكان عبد القادر ، وإذاعة لندن تنقل تلك الأحداث المؤلمة من تدمير فلسطين وقتل الشعب الفلسطيني ، إذ ينتفض العوض من إتكاءته ويقف، يرتدي نعله الجلدي، ويحمل عصاه، وينفض “العرّاقي” من حبيبات الرملة المتعلقة بظهره ، حينما كان راقداً على ذلك القوز مسترخياً ، مستمعاً بكل أحاسيسه للإذاعة ، ويقوم.. ويقول قبل أن يغادر الدكان وهو في حالة غضب شديد.. ويقول :(علَيْ الطلاق الفلسطينين ماعندهم حظ… حرّم كان عندهم حظ كان السودان بِقا جوار ليهم… حرّم كنّا دخلنا فلسطين بعصينا ديل ! ) ويهز عصاه ، ويغادر المكان، والحضور في وجوم وحزن !. وذات المشهد يشهده العوض في حرب أكتوبر عندما انتصر المصريون على إسرائيل وحرب العبور التي غيّرت المشهد ، وجعلت العوض “يصوقِر” حول “الراديو” ! والناس حوله معجبون .
وشهدنا كيف كانت إذاعة لندن تنقل بمهنية واحترافية بيانات وقرارات ثورة مايو التي كانت تتصدر الأخبار من قوتها وقوة الرئيس الراحل جعفر محمد نميري في ذلك الوقت ، حين كان كل الشعب السودان يلتف حول قائده ، وأمام المذياع لسماع تلك القرارات القوية الحاسمة من ” البي بي سي” لندن ، ثم يخلد في نوم هادئ، ويحلم بمستقبل مشرق للسودان .
والآن أغلقت مكاتب هيئة الإذاعة البريطانية لندن بعد أكثر من ثمانين عاما ، شهدت أكبر وأعظم الأحداث في المنطقة العربية والسودان.
فاتت “البي بي سي” لندن… وماتت، وكأنّ لسان حالها يقول ( هي وينا الأخبار البنقلوها ؟!.. وهو وينو المواطن البيسمعنا ؟! ، وهو وينو المسئول الكان يصدر البيان الهام ، والناس تبطِّل شغلتا وتسمعه بكل أحاسيسها ؟!)
وماتت “هنا لندن” بعد أن مات الإختشوا ، وماتت الأحاسيس والمشاعر والضمائر ، والوطنية،، حتى أمسى كل شيئ باهِت ومسيخ، رغم الطفرة الإعلامية الكبيرة من قنوات فضائية وتقنية حديثة…. أجهزة وقنوات بدون مادة دسمة ، وبدون مصداقية ، وبدون زعماء تنبض قلوبهم بحب الأوطان ، وتذخر عقولهم بالخطط والأفكار !!!… أجهزة وقنوات صارت مملّة، لا يجلس أمامها عاقل راشد ، سوي الأطفال يشاهدون مسلسلات الأطفال !!.
والله المستعان
لواء شرطة م
عثمان صديق البدوي
31 يناير 2023