مقالات

خواطر مهاجر .. رحلة العودة الى الوطن فبراير. 2023 .. غانم عثمان ادم – كندا

الحلقة الخامسة

آخر مغامراتي في حي فيصل بالقاهرة كانت عندما اضُطرِرنا لاستغلال ” ركشة” لزيارة احد المعارف. خرجنا الى الشارع العام و أوقفنا “ركشة” من بين عشرات “الركشات” التي تحاول استقطاب الزبائن. لاحظت ان اخي غلام الدين كان مشفقا علي وأنا اركب “الركشة”، واظنه قد نسي انني في ماضي حياتي قد سافرت بالدواب و المراكب الخشبية و اللواري وقطارات البضاعة وعربات الكارو وكل وسائل السفر البدائية. الا ان تجربة ركوب “الركشة” كانت تجربة فريدة حيث انني لم اكن اعلم ان المقعد الخلفي “للركشة” واسع ومريح و نظيف وجوانبه مزركشة بشتى الألوان الزاهية، اضافة الى ان السائق يملك كل وسائل الترفيه لزبائنه من موسيقي وكوميديا وخطب دينية واحيانا قرآن.
بدأ سائق “الركشة” يسير بنا في اطراف الشوارع مرة وبين السيارات مرات؛ و”ركشته” تتأرجح ذات اليمين وذات الشمال بصورة مرعبة، مُخالِفا لكل قواعد المرور ، اضافة الى ان “ركشته” تُحدِث صوتا مزعجا ذا “طقطقة”، وهذا سبب تسميتها “توكتوك”، مع انبعاث ابخرة كثيفة من العادم. واخيرا وصلنا الى وجهتنا بسلام.
يإلهي، ما اعجب “الركشة” هذا المخلوق العجيب؟!! قرأت في السابق ان كلمة “ركشة” اصلها ياباني” ريكشو rickshaw” وهي عربة بعجلتين تسع لشخص واحد ويجرها شخص آخر. وبمرور الزمن طورها الهنود وزادوا عليها عجلة ثالثة و زودوها بموتور و أبقوا على الاسم الياباني ”ريكشو rickshaw” وحَرّف السودانيون الاسم “ريكشوا “الى “ركشة”.
عندما وصلنا الى وجهتنا كان لزاما علينا ان نقطع الشارع الى الجهة الاخرى. لا توجد اشارة للمشاة كما هو الحال في كندا. ففي كندا يضغط المشاة على زِر وينتظرون لثوان معدودة حتى تفتح اشارة المشاه وتتوقف السيارات ويقطع المشاة الشارع بسلام، وإني اشك ان حوادث السير في كندا اقل منها في القاهرة، فالمشاة في القاهرة تحرسهم عناية الله.
بدأت الاستعداد لقطع الشارع . إنني الآن اخوض مغامرة جديدة. وقفت في طرف الشارع منتظرا حدوث انفراجة استطيع من خلالها المرور ، الا ان ذلك مستحيل،فالسيارات الصغيرة والكبيرة والدراجات بكل انواعها وعربات الكارو والركشات تمور كالسيل المنهمر ، وما كان مني الا ان توكلت علي الله وتبعت بقية المشاة” المتمرسين” في قطع الشوارع ، غير انني رفعت كلتا يدي، كالمستغيث ، مشيرا لسيل السيارات المتدفق بالتوقف، مع اندهاش السائقين. وبحمد الله استطعت ان اقطع الشارع بسلام.

استقبلنا مضيفنا و كان يخاطب اخي غلام الدين بكلمة “يا حاج”، وهي كلمة تقال لكبار السن من باب التوقير و الاحترام، غير انني لم احظ بهذا التوقير “يا حاج” من مضيفنا على الرغم من ان الفارق بيني وبين اخي غلام الدين اعوام قليلة، واظن ان السبب يعود الى ان أخي كان يلبس جلبابا وعمامة وملفحة بينما انخدع مضيفنا بمظهري الزائف الذي يعكس الحضارة الغربية.

افرغت كل مالي من شوق وحنين لمدينة القاهرة و بدأت التجهيز للسفر للسودان. وبما انني احمل جوازا كنديا فإنه يتوجب علي ان احصل على تأشيرة دخول لوطني السودان. توجهت في الصباح الباكر لمبنى السافرة السودانية بالدقي. بوصولي هناك رأيت جمهرة من بني وطني, تبدو عليهم تعاسة لا تخطؤها العين ، يقفون صفا طويلا امام شباك صغير، وفي الجانب الآخر صف غير منتظم لمصريين علمت مؤخرا انهم يودون السفر الى السودان.
بما ان موعد فتح السفارة لم يحن بعد فقد دفعني حب الاستطلاع لأحادث بعض السودانيين،ولعل حب الاستطلاع هذا نابع من شدة شوقي للسودان الذي اغيب عنه لسبع سنوات. الحق يقال ان مزاجي العام يختلف تماما عن مزاج كل من في هذا المكان. بوجودي هنا،في هذا الصباح، فإنني استرجع ذكرياتي مع السفارة السودانية في الثمانينات من القرن الماضي، والتي كنا عندما ندخلها لا نجد غير الموظفين. لا جمهرة ولا صفوف؛ حتي مكتب السفير كان مفتوحا على مصراعيه لكل من يود مقابلته.

اقتربت من احد المنتظرين. خدعه مظهري الزائف، حيث ظن اني مسئول بالسفارة و بدأ في سرد مأساته. ذكر لي انه يعمل بالخليج وقد حضر للقاهرة لعلاج زوجته وشاءت ارادة الله ان تضع زوجته مولودا ذكرًا . وبما انهم بصدد الرجوع الى الخليج فإن المولود الجديد ليس له اوراق ثبوتية وجاء الى السفارة لاستخراج وثيقة سفر اضطرارية وظل يأتي للسفارة يوميا لاستخراج اذن السفر بلا نتيجة . كان يحكي قصته بكل حرقة حيث انه يخشى ان يفقد وظيفته في الخليج لو تأخر كثيرا. اصابه الإحباط عندما علم انني طالب خدمة مثله. سوداني اخر ذكر لي ان زوجته مصرية وله منها ابن. ذكر انه ظل يأتي للسفارة كل يوم لاستخراج وثيقة سفر لابنه لأنهم بصدد زيارة السودان.

معظم هؤلاء السودانيون من الطبقة الفقيرة ، التي هي طبقتي. الطريف في الامر ان بعضهم انخدع بمظهري الزائف الذي يعكس الحضارة الغربية، و حسبوني مسؤولا كبيرا و قصدوني للتوسط لهم لتذليل مشاكلهم مع السفارة.

قصص متنوعة تحكي عن معاناة شعب تفرقت به سبل الحياة. كثير من الناس يهاجم السفارات وموظفو السفارات في مختلف دول العالم. الحق اقول، الكل يعاني، موظفو السفارات يعانون والشعب المغلوب على امره يعاني. عندما جاء دوري قابلت موظفين يعملون بكل جهد لخدمة هذه الجمهرة من السودانيين ويتحملون كل الاساءات من الجمهور. اثناء تواجدي دخل احد السودانيين على الموظفين و بدأ في توزيع افظع الشتائم،بغير رحمة، ووصفهم بأنهم فاشلون وفاقد تربوي يتحكمون في عباد الله. الموظفون كانوا في حالة صمت وارادوا تهدئته لكن دون جدوى. من خلال تبادل الاتهامات علمت ان ذلك الشخص يعمل بالسعودية واتصل بأحد موظفي السفارة يستفسره عن تجديد جوازات زوجته واولاده، وقد وعده الموظف بأن الجوازات ستكون جاهزة في ظرف اسبوع، ومر شهر كامل من غير ان تتجدد الجوازات.

اتيت للسفارة السودانية للحصول على تأشيرة لدخول بلدي السودان، وقد اصابني الاعياء عندما ذكر لي الموظف ان سعر التأشيرة مئة وخمسون دولارا!! استعذت بالله من الشيطان الرحيم اذ ان جوازي الكندي هذا يُمَكنني من دخول اكثر من مئة دولة دون الحصول على تأشيرة. المشكلة ليست مشكلة موظفي السفارة وانما هي مشكلة سياسة دولة بلا تخطيط. الدول تحاول جذب الأجانب لزيارة دولهم وبلدي السودان يعمل جاهدا على صدهم.

جلست هناك انتظر التأشيرة وعندما حان موعد دفع الرسوم ذكر لي الموظف ان “الشبكة طاشة”. لم افهم كلامه في بداية الامر ، ولم اكن ادري انه يقول لي ان الحصول علي تأشيرة غير ممكن في هذا اليوم ، وهنا تذكرت اولئك المعذبون في الارض خارج السفارة والذين ذكروا لي أنهم يأتون الى السفارة كل يوم دون قضاء حوائجهم. بعد شد وجذب، وبمساعدة الملحق الثقافي د. مرتضى، استطعت الحصول على تأشيرة الدخول.

إنضم الى مجموعتنا على الواتس آب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى