مصطفى ابوالعزائم يكتب: (بعد ..و ..مسافة)الأمن في منابر التفاوض (!)
تساءل عضو في إحدى مجموعات الواتساب بالأمس ، مًسْتنكِراً ( لماذا يميل كثير من الصحفيين دائماً إلى مساندة الأنظمة الشمولية والعسكرية ؟ ) وذلك بعدما إطّلع مؤخراً على رأينا الواضح من طرح ما يُسمَّى بقضية إعادة هيكلة المؤسسات العسكريّة من جيشٍ وشرطة وأجهزة أمن ، في منابر التفاوض ، وما تبديه بعض القوى السياسية والحزبية من إحتفاء بهذا الموضوع والتصفيق له في السِّرِ والعلن ، وإشارتنا للمخاطر المترتبة على هذا الأمر إن أصبح واقعاً ، ورأيت ألا أرد على عضو تلك المجموعة داخل نطاقها ، بل رأيت أن يكون الرّد عاماً بالنّشر العام في الصحف الورقية والصحف والمواقع والإلكترونية ، و المنصّات حتى تكون وجهة نظرنا واضحة دون إلتباس بحيث لا يكون هناك تفسير خاطئ .
لا أعطي نفسي الحقّ في الرّد بإسم الآخرين ، لكن رأيي الشخصي هو عدم التسرّع في إتخاذ قراراتٍ تضرّ ببلادنا وتُهدِّد أمنها القومي و نندم عليها لاحقاً ، وذلك إنطلاقا من أن قاعدة الإستقرار في أي بلد إنما تقوم على الإطعام من جوع والأمن من الخوف ، وهي قاعدة ربانيّة ، لذلك علينا أن نؤسس لبناء مؤسسات الدولة بعيداً عن المحاصصات الحزبية السّياسيّة ، وبعيداً عن طموحات السّاسة الشخصيّة مع التأكيد على مبدأ الحريات العامة والتداول السلمي للسُلطة .
ولنا مثلما أشرنا من قبل تجربة أفرزت نتائج كارثية على بلادنا بعد سقوط نظام الرئيس جعفر محمد نميري رحمه الله ، وحل وتصفية جهاز أمن الدولة في العاشرة من صبيحة يوم الإثنين السابع من أبريل عام 1985 م بعد أربع وعشرين ساعة فقط من إستيلاء الجيش على السلطة منحازاً للإنتفاضة الشّعبية ، لكن من أخطاء ذلك المجلس العسكري الإنتقالي برئاسة المشير عبدالرحمن محمد حسن سوار الذهب رحمه الله إصدار ذلك القرار ، وقد وقفت على كثيرٍ من تفاصيل تلك الفترة ، وإلتقيت بعدد من صُنّاعِ القرار فيها والحديث إليهم بدءاً من المشير سوار الذهب رحمة الله عليه ، رئيس المجلس العسكري الإنتقالي ، ومحاورته لصالح صحيفة الأضواء التي يرأسها آنذاك أستاذنا الكبير محمد الحسن أحمد ، رحمه الله ، غير لقائي وعدد من الزملاء بالمشير سوار الذهب داخل القيادة العامة للقوات المسلحة في أول يومٍ لإنحياز القوات المسلحة للإنتفاضة ، ولقاءات أخرى مع السيّد عبدالوهاب إبراهيم والعميد وقتها الهادي بشرى وغيرهم للوقوف على أسباب وتداعيات قرار حل وتصفية جهاز أمن الدولة .
أخطر ما ترتب على حل جهاز الأمن وتصفيته ، إنهيار منظومة الأمن القومي، فقد إنقطع التواصل مع عملاء الجهاز في الداخل والخارج فجأة ومرة واحدة ، وتسابقت الأحزاب السياسية والمنظمات للحصول على الملفات ، وإستباحت تلك الثروة من المعلومات الإستخبارية ، وإستخدمت بعضها في تصفية الحسابات والإبتزاز .
في العام 1978 م وبعد تكوين جهاز أمن الدولة بدمج جهازي الأمن العام والأمن القومي تولى السيّد اللواء عبدالوهاب إبراهيم رئاسة الجهاز الجديد ، لكن ذلك كان نهايةً لدوره بعد أن أصبح اللواء عمر محمد الطيّب نائباً للرئيس نميري عقب الإطاحة بالنائب الأول وقتها اللواء عبدالماجد حامد خليل ، وقد لمع إسم اللواء عمر محمد الطيب بعد دوره الكبير الذي لعبه في المصالحة الوطنية ، وأدواره اللاحقة في مسيرة النظام المايوي ، لكن سعي اللواء عمر لتقوية جهاز أمن الدولة وتعديل القوانين الخاصة به ، بحيث زادت على منحه صلاحيات شبه مطلقة ، مع منحه نفس صلاحيات رجال الشرطة الواردة في قانون الشرطة لعام 1977م وقانون الإجراءات الجنائية لعام 1974م ، وقد أصبح بذلك رئيس جهاز أمن الدولة هو المسؤول الأول أمام مجلس الأمن القومي ، وهو الذي يُقدِّم له تقارير الجهاز السّرّية ، وهو المجلس الذي يرأسه رئيس الجمهورية ، ويختص برسم سياسات الأمن عامة والتنسيق بين الأجهزة الأمنية المختلفة ، وأصبح الجهاز هو اليد التي يعتمد عليها النظام. خاصة بعد كشفه لعدة محاولات إنقلابية وإفشالها ، حتى بعد نجاح بعض تلك المحاولات في الوصول إلى نقطة الصفر وإجتيازها ، لكن صورة الجهاز على المستوى الشعبي كانت سيئة ومشوّهة ومستفزة للمشاعر ، وقد لعبت المعارضة دوراً كبيراً في رسم تلك الصورة القاتمة ، وترسّخت لدى العامة صورة وحشية للنظام الذي يستخدم ذلك الجهاز في قمع الشعب وإنتهاك حرماته من حماية الرئيس وأركان النظام ، وأسهمت طبيعة الجهاز السّرّية في تثبيت هذه المفاهيم ، لذلك وجد المجلس العسكري الإنتقالي أنه إذا لم يتخذ قراراً يتماشى مع مطالب الشارع الثائر ، سيجد نفسه في مواجهة ثورة جديدة ، وهذا هو ما قال به الدكتور الجزولي دفع الله ، رئيس وزراء الإنتفاضة الذي جلست إليه كثيراً قبل وبعد الإنتفاضة ، لكنه قال في حوار صحفي سابق إنه كان بالإمكان تلبية المطالب الشعبية دون اللجوء إلى حل جهاز الأمن وتصفيته ، وكان يقول إن إجراء الإصلاحات الهيكلية داخل الجهاز كانت ستكون أجدى للجهاز والثورة والبلاد ، مع ضرورة محاكمة المفسدين وأصحاب التصرفات السالبة ، ودعم الجهاز بقوة جديدة تتمتع بالجدارة والكفاءة والإستحقاق .