مصطفى أبو العزائم يكتب : بعد.. ومسافة… و.. على ابن الجنوب ضميت ضلوعي .. !
يبدو إن ما كتبناه بالأمس عن شاعرنا الكبير الراحل عبدالمنعم عبدالحي ، قد أثار كوامن في صدور البعض ، ومنهم صديقنا وزميلنا الصحفي صاحب القدرات المتميزة ، الأستاذ نجل الدين آدم ، والذي حكى لي بالأمس كيف إلتقى أسرة شاعرنا المبدع عبدالمنعم عبدالحي ، مصادفة ، وهو يبحث عن أسرة رمز وطني كبير ، ليوثّق لمسيرته ، فكانت المصادفة السعيدة ، لكنني لن أكتب عمّا قاله اي الأستاذ نجل الدين آدم ، وقد أعلن أنه سيكتب سلسلة من المقالات التوثيقية ، وأحسب أنه من الفاعلين .
قلت لصديقنا الأستاذ نجل الدين ، إن الموضوع الفنّي الذي تناولنا فيه سيرة الشاعر الراحل عبدالمنعم عبدالحي ، كان نتيجة حوار هاتفي مطوّل مع الأستاذ الكبير والخبير القانوني المعروف ، الوزير الأسبق الأستاذ عبدالباسط سبدرات ، وكانت البداية ، تعليقه على مقال كتبناه عن ظاهرة ( البلابل ) ، وذكرت في ذلك المقال الذي وجد انتشاراً واسعاً ، من خلال تناوله في الصحافة الورقية والمواقع الإلكترونية وبقية التطبيقات ، ذكرت إن البلابل _ هادية وآمال وحياة _ كريمات الأستاذ الكبير محمد عبدالمجيد طلسم ، رحمه الله ، هُنّ ظاهرة فنية واجتماعية في ذات الوقت ، وقد كُنّ مثلث إبداع قام على ثلاثة أضلع أساسية ، الأول هو إمكانياتهن الفنية ، وقدرتهن على الغناء المشترك ، والضلع الثاني هو الموسيقار الكبير بشير عباس ، الذي كان له الفضل في الدفع بهن إلى طريق الفن ، أما الضلع الثالث والأهم ، هو التفهم والإدراك والوعي بأهمية الفنون عموماً من قبل والدهن الأستاذ محمد عبدالمجيد طلسم .
خلال المحادثة الهاتفية المطولة مع الأستاذ الكبير عبدالباسط سبدرات ، والتي شارك فيها الأخ الأستاذ عادل سنادة ، وهو صاحب مقترح تناول تجربة البلابل ، في إحدى مجموعات تطبيق الواتساب ، خلال تلك المحادثة إقترح الأستاذ سبدرات عدة موضوعات فنية للنقاش ، لأن في ذلك خروج من حالة الإحباط العام التي يعيشها الكثيرون ، مثلما فيه خروج عن قضايا السياسة والحديث حولها ، وفيه ترويح عن النفس كبير ، لذلك جاء من قبلنا التطرق لموضوع أو مسيرة الشاعر الكبير الراحل عبدالمنعم عبدالحي ، ولأن أثر الشاعر كبير ، خصصنا مقالاً آخر عن سيرته ومسيرته ، وارتباط ذلك بالناس والحياة والمجتمع ، لكننا سننتظر ما يقدمه لنا زميلنا الصحفي والباحث والموثّق ، الأستاذ نجل الدين آدم ، ونقول له إننا في الإنتظار ، وبقية القراء .
وها هو ذا ما كتبناه من قبل عن الشاعر الكبير الراحل عبدالمنعم عبدالحي :
رحم الله الفنان الكبير (العميد) “أحمد المصطفى”، ورحم الله شاعرنا الراحل المقيم، الضابط العظيم “عبد المنعم عبد الحي”، عندما كتب الأخير لمدينة أم درمان وعنها، وغنى لها الأول، واحدة من أغنياته الخالدة (أنا أم درمان).
“عبد المنعم عبد الحي” نموذج لمواطن (وادي النيل) فأصوله تعود إلى جنوب السودان، وهو من مواليد مدينة “أم درمان” لأبوين ينتميان إلى إحدى أكبر القبائل النيلية والأفريقية، وهي قبيلة الدينكا، ودرس بأم درمان المرحلتين الأولية والوسطى ليغادر إلى مصر ويلتحق بحلوان الثانوية هناك، وينضم إلى الكلية الحربية المصرية ويتخرج ضابطاً في الجيش المصري، ويتزوج من سيدة مصرية فاضلة ينجب منها عدداً من الأبناء والبنات، واستشهد اثنان من أبنائه في حروب مصر مع إسرائيل، إذ استشهد الأول في حرب 1967، والثاني في حرب 1973، وكانا ضابطين في الجيش المصري.. وقد توفى شاعرنا الكبير عام 1975 ودفن في مصر التي أحبها وفداها بروحه وبنيه.
كتب “عبد الحي” شعراً جذلاً رقيقاً، ضمنه حبه وشوقه لأم درمان مثل (أنا أم درمان) لأحمد المصطفى، و(نار البعد والغربة) للفنان الكبير “حمد الريح”، و(على ربى أم درمان) لمحمد الحويج، و(المامبو السوداني) لسيد خليفة، وغيرها من أغنيات عظيمة لفنانين كبار مثل الراحلين “إبراهيم الكاشف” و”حسن عطية” و”عبيد الطيب” و”عثمان حسين” و”محمد حسنين” و”إبراهيم عوض” و”عبد الدافع عثمان” وغيرهم.
استمعت إلى مذكرات هذا الشاعر الكبير من خلال تسجيلات إذاعية بركن السودان في “القاهرة” ضمن سلسلة حوارات مطلولة أجراها معه الإذاعي والإعلامي المصري الضخم الأستاذ “فؤاد عمر” – رحمه الله – ثم اطلعت على تلك المذكرات أو الذكريات مدونة في كتاب كان هو تفريغاً لتلك الحوارات. وخلصت إلى أن الراحل المقيم الشاعر الكبير “عبد المنعم عبد الحي” هو النموذج المتقدم والمرجو لإنسان أو مواطن وادي النيل.
في زمان سابق تحسس بعض أشقائنا من أبناء جنوب السودان من أغنية (أنا أم درمان) لأن المغني يقول: أنا ابن الشمال سكنتو قلبي .. وعلى ابن الجنوب ضميت ضلوعي.. وأخذ ذلك البعض (يتفلسف) في تفسير كلمات الأغنية، ويحتج على أن (القلب) لأبناء الشمال، في الوقت الذي أصبح فيه (ما بين ضلوعي) لأبناء الجنوب، وهي تفسيرات تؤكد على مثلنا القديم (يغني المغني وكلٌ على هواه) أو كما قالت العرب قديماً: “كلٌ يغني على ليلاه”. ولم يكن المحتجون يعلمون أن الشاعر جنوبي، بل من أبوين من قبيلة الدينكا!
لأبناء جنوب السودان حساسية مفرطة في نظرتهم للأحداث أو تقديراتهم للواقع قبل الانفصال، لذلك تمردوا وقابل كثير منهم المعاملة الخاصة من أشقائهم في الشمال بغير ما يستحق هؤلاء الأشقاء، وظنوا أن تلك المعاملة الخاصة نابعة من ضعف لدى أبناء الشمال – وتنامت تلك العقدة في نفوس الساسة والطبقة المتعلمة، وأخذوا يغذّون بذور الحقد والكراهية حتى تنمو في نفوس أبناء الجنوب لمجابهة الشمال الظالم الباطش المستعبد، إلى آخر تلك الأوصاف والنعوت الرديئة والسيئة، لذلك عندما جاءت لحظة الاستفتاء والمفاضلة بين البقاء في حضن الوطن الكبير أو الانفصال، اختاروا الانفصال وأسموه (استقلالاً)!
لم تفكر إلا قلة قليلة من النخب السياسية والقيادات الجنوبية بالعقلية التي كان يفكر بها الشاعر العظيم “عبد المنعم عبد الحي”، لقد آثرت النخب الجنوبية أن تسجن عقولها داخل مرارات متوهّمة وإضطهاد مُتخيّل، وتمييز غير موجود في أرض الواقع.. لذلك جاء الانفصال بإرادة شعبية واسعة وعريضة لا نشك فيها، ولكن أصبح كل الجنوب أمام امتحان صعب، ويوم الامتحان – كما نقول دائماً – يكرم المرء أو يهان.. وانكشف بعد امتحان الانفصال زيف دعاوى النخب التي أرهبوا بها العامة، وعاد (ابن الجنوب) ليعيش بين ضلوع السودان القديم كأنما هو يقوم بعملية استفتاء عكسي للوحدة أو الانفصال.
ليت الوحدة عادت رسمياً بين شطري الوطن الواحد ، لأنها الآن هي واقع معاش ، رغم أنف الساسة ، ومن أرادوا إفساد البلاد والعباد ، ليتنا نعلي من قيمة الوطن الواحد ، حتى يقول كل واحد مِنّا : أنا سوداني ، ونردد ما قاله عبدالمنعم عبدالحي من قبل ..