*مصطفى ابوالعزائم* يكتب في ( *بُعْدٌ .. و .. مسَافَة) .. عندما يكون السّاسةُ كِباراً ..
سألني أحد أبنائنا الشباب ، بعد أن قال لي إن الكثيرين يُحمِّلون السّاسةَ مسؤولية الأزمات التي تعاني منها بلادنا ، بل إنّ البعضَ ذهب إلى القول بأنّ أكثرُ السّاسةِ أقل قامة من هذا الوطن ، وتساءل الإبن الشّاب بحسرةٍ وأسىً بالغين : متى يكون السّياسي كبيراً ؟ .
حقيقةً فوجئت بالسّؤال ، بل وأُعْجبتُ به في ذات الوقت ، لأن السؤال دائماً هو بداية المعرفة ، وهذا يدلُّ على أن بعض شبابنا في حيرة من أمرهم ، لا يجدون من ينير لهم ظلمات الواقع ، ولا يزيل من أمامهم العثرات والعوائق التي تعترض مسيرتهم نحو المستقبل .
أقول لنفسي دائماً ، إنَّ بعض السّاسةِ يحاولون إستغلال الطهر السّياسي ، لدى هؤلاء الشّباب ، ونقائهم الثوري ، فيحاولون توظيفه لصالح أجندتهم ، وأجندة أحزابهم ، بل وصل الأمر ببعض أولئك السّاسةِ والناشطين ، إلى أن يعملوا على تحريض الشّباب على الخروج إلى الشّارع ، ومواجهة السلطات ، مع القول بأنهم على إستعداد لتقديم المزيد من الشهداء ؛ علماً بأن هذا البعض الذي يحرّض على الخروج إلى الشارع ، ومصادمة السلطات -يقيم في الخارج ، وربما لم يقم بزيارة وطنه وأهله منذ سنوات .
إنتظر إبننا الشاب إجابتي ، فقلتُ له إنَّ السّياسي الكبير ، هو الذي يضع الوطن نصب عينيه ، ولا يُحابي أحداً في الحقِّ ، حتى وإن كان من أهل بيته أو حزبه او من عشيرته الأقربين ، لأن العدل هو أساس الملك ، والسُياسي والقيادي الحزبي يسعى للحكم لا لغيره ، وهو يعلم إن الملك والحكم ، لا يدوم ، وإنه لا ملك أو حكم إلّا لله .
ورويت له ما عرفناه من آبائنا ، ومن سجلّات تاريخ الحركة الوطنية ، وقد سمعت الكثير من ذلك ، من السيّد الوالد محمود ابوالعزائم _ رحمه الله _ ، وتقول إحدى الوقائع إنّ بعض نواب الحزب الوطني الإتحادي ، داخل البرلمان ، أخذوا يتململون بعد أن تم تنفيذ إتفاقية عام 1953 م ،بنسبة قاربت الثمانين في المائة ، وإقترب موعد الإستفتاء على ( الإستقلال ) أو (الإتّحاد مع مصر ) ، وقد إجتمع النّوّابُ حسن محمد زكي ، والوسيلة الشيخ السمّاني ، ومحمد كرّار كجر _ رحمهم الله جميعاً _ وأخذوا يتداولون في أمر الإتّحاد مع مصر ، وخلصوا إلى أنه ليس من حقّهم ، ولا من حقّ غيرهم ، أن يقرروا مصير السّودان نيابةً عن الأجيال القادمة ، لذلك عليهم أن يحصلوا على الإستقلال أولاً ، ليقرّر السودانيّون بعد ذلك الأتحاد مع مصر ، أو عدمه .
بدأ نشاط النّوّاب الثلاثة وسط أعضاء الهيئة البرلمانية ، فكسبوا ثقة أحد أكثر أعضائها نشاطاً وحيويةً وتأثيراً ، وهو الراحل المقيم محمد جبارة العوض ، وهو رجلٌ تاريخ ، ويُذْكَر أنه قام بشحن قطار كامل من رجال كسلا والشرق للمشاركة في ثورة أكتوبر عام 1964 م ،لكن هذه قصة أخرى ، نعرض لها في مقبل الأيام إن كان في العمر بقيّة .
قاد النائب محمد جبارة العوض ، مع النّوّاب الثلاثة الإتصالات السرّيّة ، ونجحوا في إستمالة نوّابٍ آخرين إلى دعوتهم تلك ، التي سمع بها البروفيسور محمد عبدالله نور ، عميد كُلّية الزراعة بجامعة الخرطوم وقتها ، وسمح لهم بعقد إجتماعاتهم داخل الكُلّية ، ثم علِم القطب الإتحادي الكبير ، مبارك زروق بالأمر فشجّعهم على المُضي فيه ، وعلِم ” البلدوزر ” يحيى الفضْلي بتلك التحركات ، فباركها وإنضم إليها ، وعلِم أحد مؤسسي صحيفة الأيام ورئيس تحريرها آنذاك بشير محمد سعيد بالأمر ، وهنا جاء دور الصحافة .
تبنّت صحيفة الأيام قضيّة الإستقلال ، من خلال قلم رئيس تحريرها المؤثر بشير محمد سعيد ، الذي سحب ببابه ” متنوعات .. أخبار .. وأفكار ” البساط من تحت أقدام أي صحيفة تصدر في السّودان آنذاك ، وإنتهى أمر أصحاب الدعوة للإستقلال من داخل الحزب الوطني الإتحادي ، إلى أن يقدّموا مذكرة إلى رئيس الحزب يدعونه فيها إلى تغيير موقف الحزب من الإتّحاد إلى الإستقلال ، وكانت مقالات الأستاذ بشير محمد سعيد قد أقنعت النّاس بالإستقلال ، وكانت جماهير الحزب تذهب إلى الزعيم الأزهري في بيته تحمل ذات الطلب ، وكذلك عدد من النّوّاب الذين إحتوتهم الدائرة ، و بعد أن تسلّم الزعيم المذكرة إحتفظ بها ، ولكن مع الضغوط المستمرة من أعضاء الهيئة البرلمانية ، ومن النّوّاب ، ومن جماهير وعضوية الحزب ، أصدر الأزهري تصريحات أقرب للقرار ، بأن هذا الأمر تملكه جماهير الحزب في السّودان ، لذلك رأى أن يقوم بجولة واسعة يطوف فيها طول البلاد وعرضها ، مجتمعاً بالدوائر الفرعية فيها ، ورافقه في رحلته تلك كبار الصّحفيين ، بشير محمد سعيد ، إسماعيل عتباني ، وأحمد يوسف هاشم ، وعاد بتفويض من من جماهير الحزب وعضويته بدعوة الهيئة البرلمانية للحزب مبيّنا إن الجماهير تريد الإستقلال ، وقررت الهيئة البرلمانية الإستقلال بما يشبه الإجماع ، إلّا عضوان إثنان ، وهو ما دعا الأزهري وهو رئيس للوزراء أن يطلق تصريحه الشهير ، وهو يرد على مسألتين مستعجلتين ، من داخل البرلمان الأولى لعضو من الجنوب ، والثانية لعضو حزب الأمة يعقوب حامد بابكر ، الأولى تحدثت عن أن هناك معلومات بأن إتفاقاً سرّياً تم بين الحكومة وجهات أجنبية ، لإنشاء قواعد أجنبية في البلاد ، والثانية تقول إن هناك طائرات أجنبية بتصريح حكومي رسمي ، تحوم في الأجواء السّودانية ، فكان رد الأزهري إنه لا علم له بما قيل ، وإنه غير حقيقي ، وقال : « إن حكومتي مهمتها تنفيذ إتفاقية عام 1953 م ، وأن تسودِن وظائف البريطانيين ، وأن تحقق الجلاء ، فتمت السودنة بحمد الله ، وتم الجلاء بحمد الله ، وسوف أُعْلِن الإستقلال من داخل هذه القاعة يوم الإثنين القادم » .
كلمة الأزهري كانت مفاجئة لحكومتي مصر وبريطانيا ، بل وكل الاحزاب السّودانية بما فيها حزبه شخصياً ، وقد جرت خلال يومين إتصالات مكثفة لمقابلة الوضع الجديد ، وقد سمعتُ من والدي رحمه الله ، ثم لاحقاً من محمود الفضْلي ، إن وفداً من ثلاثة أشخاص ذهبوا إلى السيّد الإمام عبدالرحمن المهدي ، يحرّضونه على ما أعلنه الأزهري ، لأنها هي دعوة الإمام عبدالرحمن ، والثلاثة هم الصّديق المهدي ، وميرغني حمزة ، ومحمد أحمد محجوب ، فردّهم السيّد عبدالرحمن بغضب ، وإستدعى في لحظته عبدالرحمن النور قاضي المحكمة العليا ، والأمير عبدالرحمن نقدالله ، وشخصاً ثالثاً ذكر والدي إنه يميل إلى أنه أمين التوم ، وطلب إليهم أن يذهبوا فوراً إلى إسماعيل الأزهري في بيته ، لإبلاغه إن السيّد عبدالرحمن يطلب منه السير بحزم في طريقه ، وإنه يقف إلى جانبه حتى نهاية الطريق ، وقد إرتفعت الروح المعنوية لرئيس الوزراء ، الذي كان معه وقتها يحيى ومحمود الفضْلي وعرابي ، وهو موقف عظيم من السيّد عبدالرحمن الذي يشهد له التاريخ بمواقف عظيمة كثيرة ، لكن هذا من أعظمها .
قصصتُ على الإبن الشاب ما قرأتموه الآن ، وسألته قائلاً : ” هل عرفت لماذا كان السّاسةُ كِباراً ؟ ” إبتسم الإبن الشاب ، وهزّ رأسه إعجاباً بجيل غاب إلّا من كُتب السّير الذاتية .. والتاريخ ، رحمهم الله جميعاً .