أعمدة

(خواطر مهاجر ) …رحلة العودة الى الوطن بقلم: غانم عثمان آدم – كندا

الحلقة الاولى

شاءت ارادة الله ان اتغرب عن وطني لأكثر من اربعين عاما. وآخر زيارة لي الى ارض الوطن كانت قبل سبع سنوات، حيث بدأت التخطيط لرحلة سريعة هدفها صلة الرحم وتجديد الارتباط بالوطن.

بدأت في البحث عن خطوط للطيران تنقلني الى ارض الوطن بأقل تكلفة واقصر طريق، فقد كنت اقدم ايام الحجز و اؤخرها حتى استقر موعد السفر ليكون في الثامن من شهر فبراير عام 2023. عندما اكتملت اجراءات السفر بدأت ارهاصات هول السفر تطل برأسها وتحولت احلامي الليلية الى ما يشبه الاساطير . كما ذكرت سابقا ففي تلك الاحلام اجد نفسي وسط اناس جمعتني بهم الظروف في مختلف الازمان والأمكنة. لا ادري ما الرابط بين المرحوم يوسف الدرويش من بلدتي دارمالي وكومار الذي التقيته قبل اكثر من ثلاثين عاما بلندن وعصمت الذي كان طالبا معي بأسيوط في الثمانينات من القرن الماضي وفريدا العجوز التي كانت تشاركنا السكن في احد العمارات بمدينة تورنتو، وعبد السميع الذي شاركته السكن قبل ثلاثين عاما بمدينة نيويورك. كل أولئك الاشخاص اتمثلهم في بيتنا العتيق ببلدتي دارمالي والذي شهد عهد طفولتي الاول.

سفري هذه المرة سيكون عبر باريس مرورا بمصر ومن ثم السودان. جلست خالي الوفاض ومبعثر الافكار انتظر الطائرة الكندية التي ستقلني الى باريس. مختلف الجنسيات ينتظرون الطائرة فيهم العجوز والشاب والصحيح والمقعد،و بدأت اتدبر معاني الحياة من خلال اسفاري في عهود الصبا والشباب والشيخوخة حيث جلست قبالتي عجوز هندية دعاها الفضول الى ان تحادثني عن مشاعرها البائسة تجاه السفر ليلا وابدت تعجبها ان كل السفريات التي تقطع المحيط الاطلسي دائما ما تكون ليلا. بلا مقدمات سألتني من اين انا، وعندما علمت انني من السودان ذكرت لي انها من اوغندا حيث ادركت انها من الهنود الذين قام بطردهم عيدي امين في لحظة جنون وقال عبارته الشهيرة “الهنود يحلبون البقرة ولا يطعمونها” وقام بتوزيع متاجر هم ومصانعهم عشوائيا للمواطنين الأوغنديين. ذكرت لي انها كانت صبية عندما تم طردهم، على الرغم من ان جدودها ولدوا بأوغندا، حيث استقر بها المقام في بريطانيا ومن ثم كندا. قصة عيدي امين قصة مثيرة وبها كثير من العبر حيث انه بدأ طباخا في الجيش البريطاني وترقى في الرتب حتى وصل الى رتبة لواء وعينه رئيس الوزراء قائدا للجيش لكن سرعان ما انقلب على رئيس الوزراء ونصب نفسه رئيسا وكانت نهايته على يد ذلك الجيش الذي كان يرأسه. مللت الحديث مع هذه الهندية وانصرفت منها للاصطفاف لولوج الطائرة عبر ذلك البوغ الممتد.

داخل الطائرة شاءت ارادة الله ان اجلس مع زوج وزوجة شديدي التنافر منذ الوهلة الاولى، والزوج المغلوب على امره يحاول كتم غضبه وزوجته تكيل السباب لشقيقته التي لم تحسن وداعها. الزوج يحاول تهدئتها بالتماس العذر لشقيقته، والزوجة توسع دائرة الاتهام لكل اهل الزوج وتتهمهم بأنهم يكرهونها. دار النقاش بينهما زمنا طويلا حتى بعد اقلاع الطائرة. لقد زاد هذا العراك العائلي من تجاربي في الاسفار حيث ان العراك بين اهل الزوج والزوجة لا يقتصر على الوطن العربي وافريقيا فحسب، بل يشمل الخواجات ايضا. و هذه المشادة ذكرتني بعشرات القصص بين ازواج عرب و و آسيويين ممن تعرفت عليهم في مختلف البلدان.

تناولنا وجبة العشاء وانطفأت انوار الطائرة ليروح الجميع في نوم عميق ومازالت تلك الاحلام الغريبة تلازمني.

انفلق الصبح وظهرت الحقول الفرنسية ذات اللون البائس في شتاء فبراير على عكس ما نراه في الحقول الخضراء ايام الصيف و الخريف. بعد ان تناولنا وجبة الافطار اعلنت المضيفة اننا بصدد الهبوط على مدرجات مطار شارل ديجول بباريس. لي ذكريات مع هذا المطار امتدت لأكثر من ثلاثين عاما، ومن اهمها مكوث الايراني مهران كريمي لأكثر من ثمانية عشر عاما في المطار لضياع جواز سفره وقد سردت قصته في حلقات سابقة و قد حولت هوليود قصته الى فيلم سينمائى بإسم الصالة. كنت كلما امر بباريس اذهب لتحيته.

في اول زيارة لي الى باريس كتبت مقالا نشر في الصحف بعنوان ” من باريس الى دارمالي” سردت فيه الكثير من الانطباعات لقروي مثلي يرى لأول مرة المظاهر الاباحية في الشارع العام بلا خجل او حياء. ومن اهم معالم زيارتي الى باريس في الماضي انني كنت اجلس في مقهي بالشانزليزيه عندما قدم الى ذلك المقهى عدد من نجوم الفن المصرييين علي رأسهم عمر الشريف وسمير غانم وزوجته دلال عبد العزيز وآخرون. اذكر انني اقحمت نفسي بينهم وقدمت لهم نفسي بأنني سوداني كندي. ذكرياتي هذه تجعلني ازهد في هذه الدنيا الفانية، فعمر الشريف مات في دار للعجزة وذكر في لقاء تلفزيوني انه نادم على شهرته التي نالها. اما سمير غانم وزوجته دلال فقد قتلهما داء الكرونا، رحمهم الله جميعا.

إنضم الى مجموعتنا على الواتس آب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى