د. علي ابراهيم يكتب .. الشريف حسين الهندي الشهيد الحي.. 3/1
عندما أتناول سيرة هذا الراحل العظيم، أقرّ بأني لن أوفيها حقها كما يجب عبر مقال، فهي مسيرة ثروة وطويلة، على الرغم من قصرها الزمني من العلم والمعرفة والبحث والإستقصاء والثقافة فى أوسع ضروبها، ومن السياسة عبر سبر أغواراها التقليدية والمستحدثة، ومن الزهد ومن التواضع الصوفي النقي، ومن الإيمان العميق برسالة الدين الإنسانية والإجتماعية والعدلية، ومن قناعة بالإشتراكية منهجا إقتصاديا، ومن إيمان بالديموقراطية نظاما للحكم الرشيد يبسط الحريات، وتعلو به قيم الشفافية والسلام وسيادة القانون.
حمل كل تلك الرايات في معاركها، فكان بطلها المغوار، ولسانها الذرب وسيفها البتار، كان المبتكر المبدع والمجدد والملتزم، ثابت الخطى وواضح المسار والرؤى، كان حلقة مهمة من حلقات الوصل بين ماضي السودان السياسي وحاضره ومستقبله.
انت حركته تتعدى أطر الحزبية والوطن، وتمتد إلى معظم حركات التحرر والإنعتاق في العالم، أراد الله أن يسلم روحه الطاهرة فى اليونان، مهد الديموقراطية، الديموقراطية التي لطالما سعى وناضل من أجلها حتى لقي ربه، وهو في قمة عطائه مؤمنا بقضيته وحاديا لركبها.
أكاد أجزم بأنه نعى نفسه برحيله المفاجئ والمبكر، بمقولته الشهيرة:
“إن الرجال والأنفس والأرواح كلها ذاهبة وتبقى الأرض ويبقى الوطن ويبقى الشعب ويبقى التاريخ”. لا ازكيه على الله. وأحسب أن يشمله قوله تعالى:
“مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23).
ولد الشريف حسين الهندي عام 1925، في ضاحية بري، أعرق أحياء مدينة الخرطوم القديمة، تقع على ضفة النيل الأزرق، وكان لها قصب السبق في تكوين المناشط الإجتماعية والثقافية والرياضية عند تأسيس العاصمة السياسية. ومنها إنطلقت بواكير النشاط السياسي منذ النصف الثاني للقرن الثامن عشر، وتعتبر منطقة مسيسة بإمتياز، ولم يكن مستغربا أن يبرز دورها الفاعل والحاسم في الحراك الشعبي الثوري، الذى قاد إلى سقوط الطاغية عمر البشير.
والده السيد يوسف الهندي، زعيم إحدى الطرق الصوفية ويصل نسبه إلى الحسين بن علي سبط الرسول صل الله عليه وسلم.
وكان في صباه أحد فرسان الثورة المهدية، وقاتل المستعمر بضراوة مشهودة، وفي فترة الإستعمار البريطاني برز كزعيم سياسي مرموق. كان عميق المعرفة الدينية، سمحا كريما وشاعرا يكتب بالعامية وبالفصحى.
والدته من قرية قشابي على ضفة النيل شمال السودان، وهي من تخوم البركل، عاصمة أول دولة أنشئت في السودان، وهي مملكة نبتة (725 ق. م. إلى 350 ق.م.)، والتي إستولت على السلطة بمصر العليا وحكمت مصر والسودان، ووصل نفوذها إلى غرب آسيا في فلسطين وسوريا ولبنان الحالي.
إن الإرث الحضاري لتلك المملكة، لم يمح الزمن ظلاله، وتجده ظاهرا في اللغة المحلية التي تتسم بالليونة وكسر التاء المربوطة، وهي سمة المناطق ذات الحضارات العريقة كالشام مثالا، كما يؤكد ذلك المؤرخون .
وسكان منطقة قشابي وما جاورها، يمتهنون الزراعة والجندية ويمتازون بالصبر وقوة العزيمة والشدة والبساطة، مع حنية وعاطفة طاغية شكلت حالة إجتماعية ميزتها عن غيرها، وهي تبرز بوضوح في الأدب الشعبي والأهازيج الدينية والصوفية وفي الأشعار الغنائية.
ولقد قاومت هذه المنطقة، وعلى مرّ العصور المستعمرين والدخلاء.
وخال الشريف حسين السيد أحمد خير المحامي، هو أحد قادة الإستقلال، ومقدم إقتراح مؤتمر الخريجين، والذي من رحمه ولدت الأحزاب السياسية، التى قادت البلاد إلى الإستقلال الثاني في 19 ديسمبر 1955.
وكان لهذا الجو الديني الصوفي السياسي، والمشبع بتزاوج وتمازج وإختلاط عادات وتقاليد وأعراف، متباينة أثره في نشأة وحياة ومسيرة الراحل.
كانت طفولته عادية ومنضبطة وفقا للتربية الصوفية الصارمة، ونشأ في مسكن والده الجامع لطلاب العلم والدروس القرآنية، بلا تمييز أو تميز بين أترابه كواحد منهم، يتشاركون في المأكل والمشرب ويتشابهون في الملبس.
حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، وأظهر نبوغا لافتا، جعل خاله أحمد خير المحامي يتولى رعايته التعليمية، فأدخله التعليم المدني، وتدرج فيه بنجاح قاده إلى كلية فكتوريا في الإسكندرية حيث درس الإقتصاد.
بعد الإستقلال، إنضم إلى الحزب الوطني الذي أسسه أحد أعمامه، ولكن سرعان ما تخلى عنه وأعلن إنضمامه إلى الحزب الوطني الاتحادي، بقيادة الزعيم التاريخي إسماعيل الأزهري.
في نوفمبر 1958، وقع إنقلاب الفريق إبراهيم عبود، وعطل الحياة السياسية الديموقراطية في البلاد فانتقل الراحل إلى القاهرة و عمل بالتجارة و كرس الكثير من جهده و ثروته في دعم حركات التحرر الوطني في الوطن العربي وفي أفريقيا.
كانت أفريقيا في بداية الستينات، تشهد تصاعد ونمو حركات المقاومة والنضال ضد الإستعمار الأوروبي، وكانت قوى الاستعمار المحلي والعالمي تعمل جاهدة لخنقها، ووقف وتجفيف موارد وامدادت المال والسلاح اليها.
وعلى الرغم من تلك الظروف الضاغطة، والمتمثلة في عدم تكافؤ أدوات الصراع والقوة العسكرية، إلا أن تلك الحركات وبأسلحة بدائية، كانت تحقق نصراً بعد نصر.
وكان أبرز عنوان لحركات التحرر هي حركة المقاومة الثورية في الكنغو، بقيادة باتريس لومومبا، والتى كانت تسير في اتجاه انتصارها داخل ذاك الحصار، فتحرك الشريف حسين بحسّه الثوري وروحه النضالية، داعما ثورة الكنغو بالمال والسلاح، وقائدا لقوافل إمدادتها وسط غابات أفريقيا بكل مخاطرها في تحالف وتنسيق مع ثورة عبد الناصر في مصر.
ولقد هبت حركته الدؤوبة أيضا، في دعم ثورة الجزائر بالإبل المحمّلة بالسلاح والمؤن، عبر الصحراء الليبية في بداية إنطلاقتها.
عاد إلى السودان إثر سقوط نظام الفريق عبود بعد ثورة أكتوبر عام 1964. وأصبح بما يملك من كاريزما أحد ركائز النظام الديموقراطي، وكان ذو موقع مميز في قلب وعقل الزعيم الخالد الشهيد إسماعيل الأزهري، وكان ألمع الشخصيات السياسية على مسرح الحياة العامة على الإطلاق، وكان اتصاله بالناس مذهلاً.
أدبه الجمّ وحسن خلقه وتواضعه المتناهي وحياؤه الرفيع، كانت مفاتيحه إلى قلوب شعبه الوفي، كتب عن نفسه مرّة: “لم أثب على الله وأحمده بقدر ما فعلت أيامها على عادة وهبني إياها وهي صلة عميقة ومودة أصيلة بالفقراء من أفراد الشعب العاديين، صلة لا تعرف فوارق السن ولا المكانة ولا الطبقة، وإننى أيضا لا أؤمن بالملكية الخاصة ولا أحترمها، فلن أؤمن في حياتي أنني أملك شيئا ما، وما أكثر ما ملكت. بل ظللت دائما أؤمن بأن المال هو حق مشاع لجميع الناس، وطبقت هذا المبدأ على نفسي”.
كان كاتبا قديرا وخطيبا مفوها، فصيحاً، مِما أهّله أن ينال وضعا متقدما في حزبه. جاب وترحل في بوادي السودان المختلفة، قاطعا عشرات الآلاف من الأميال على ظهر الدواب تارة، وعلى السيارات في إلتحام فريد مع الجماهير، مما جعله موسوعة في معرفة أدق خصائصها.
كان منزله أشبه بالمعسكر في امتلاء دائم بمجموعات كبيرة من الفقراء والبسطاء من أهل القرى والأرياف، وكان أحيانا لا يجد سريرا خاليا لينام عليه، وأستشهد بقوله: “لقد كنت وزيرا بلا سلطة الوزير ولا هيبة الوزير أو راحة الوزير أو مسكن الوزير أو أكل الوزير أو ملبس الوزير. كنت أكثر الناس إجهادا وأقلهم تغذية وأتعسهم يوما، وكنت مطاردا طيلة اليوم بمئات المواطنين في المكتب والمنزل وحتى الطريق، حتى إضطررت لمواصلة العمل الوزاري بعد العاشرة مساءً وحتى الفجر، وكم مرة سقطت.
وفي إحدى المرات فحصنى الطبيب، ثم فحصنى بدقة أكثر ثم إبتسم وقال بكثير من التهكم: “إنه سوء تغذية إنك جائع”، ولعلني أول وزير في تاريخ الحكم والحكام كان مرضه إنه جائع، ويومها اعتقلنى الرئيس أزهري في القصر الجمهوري، وأمر بمواصلة تغذيتي، وكان يردد بلهجته الحانية على المشفقين: “إن الشريف ليس مريضاً، إنه جائع”.
لعل هذا يغنينا عن أي وصف آخر لحياته، وحركته اليومية في بلاد كانت لا تعرف الطبقات ولا الحواجز.
وفي مجال الحكم، كان متفهما لدور حزبه في البناء الإشتراكي، النابع من الواقع السوداني المتأصل بالتراث، والموروث الروحي والديني، مستصحبا معه تجارب الشعوب في تحقيق العدالة الإجتماعية، والإنحياز إلى الضعفاء والفقراء من عمال ومزارعين وطبقة وسطى، تضم الموظفين في القطاعين العام والخاص والقوات النظامية.
تولى منصب وزير المالية في الفترة من 1965 إلى 1969، وقام بإصلاحات جوهرية، وابتكر فكرة التنمية المستدامة، وهي أقرب لفكرة التسيير الذاتي لأحمد بن بلا .
رفع من شأن النشاط التعاوني ودعمه بقوة، ونفذ بما عرف وقتها بالكادر الوظيفي، والذي ارتفعت بموجبه مرتبات ودخل الطبقات الشعبية، من عمال ومزارعين وصغار الموظفين بصورة كبيرة مع ضبط التضخم وتثبيت الأسعار.
ونفذ خطة أدت إلى إستيعاب كل العاطلين عن العمل، من خريجي المدارس والجامعات بطريقة تعطيهم الراتب الأساسي، وتحفظ حقوقهم المعاشية ودورهم في إعتلاء المنصب الوظيفي الثابت، عندما يخلو المنصب، بعد وصول صاحبه الى سن التقاعد.
وقام بتنفيذ خطة تشغيل طلاب المدارس أثناء العطلة الصيفية بمرتبات مجزية، حتى يخففوا العبء المالي على أسرهم، ويدركوا قيمة العمل ثم تقدير المال المتحصل منه.
وعند زيارتي قبل عدة أعوام إلى ايسلندا، وجدتهم يقومون بتطبيق خطة تشغيل العاطلين عن العمل، وكذلك طلاب المدارس كما فعلها الشريف حسين تماما، قبل أكثر من 40 عاما في السودان، ولكم أن تتخيلوا عبقرية الرجل ونظرته المتقدمة.
اهتم الشريف بصورة خاصة بالمشاريع الزراعية، وبخاصة مشروع الجزيرة، الذي كان أكبر مشروع بالري الإنسيابي في العالم، لقناعته الراسخة بأن مستقبل السودان يعتمد ويرتكز على الزراعة، وإن إقتصاده سيكون حاضرا ومستقبلا مرهونآ بتحديثها وتطويرها علميا وتقنيا، وما عداها ستكون أمورا مساعدة، ومقولة أن السودان هو سلة غذاء العالم هي حقيقة لا خرافة أو خيال، والمطلوب فقط الإيمان بالمقدرة الذاتية، ثم الارتكاز بثبات على قاعدتها، ولذلك أعطاها جلّ وقته وجهده، وكانت زياراته الى الحقول والمزارع لا تتوقف .
وكان يشرف بنفسه على حل كل المشكلات والعقبات، ويضع الحلول، ويتابع تنفيذها عن كثب.
بنظرة فاحصة لحال المجتمع الزراعي في ذاك الزمان، أدرك وجوب تعديل الشراكة بينهم وبين الحكومة، فرفع حصة المزارعين بنسبة تجاوزت نسبة الحكومة، وجعل حصتهم في الحساب المشترك هي الأعلى، وقدم لهم المعونات المالية والزراعية، الأمر الذي أوصلهم إلى الاستقرار والرفاهية.
وكانت فترة إدارته لإقتصاد البلاد، هي الأكثر استقرارا في مرحلة ما بعد الإستقلال، وللمثال لا الحصر، كان سعر صرف الجنيه السوداني الواحد مقابل الدولار الأمريكي أكثر من 3 دولارات، والآن الدولار الأمريكي يعادل أكثر من 145000 جنيه سوداني.
قد تصيب الصدمة القاريء العربي لمآل السودان الإقتصادي، بفعل الأنظمة الديكتاتورية الشمولية، كان هذا قدر يسير ومختصر لنشأته ولسياسته الإقتصادية والإجتماعية، خلال توليه حقيبة المالية.
فى الجزء الثاني، سيكون الحديث عن دوره في القضايا العربية كقضية العرب المركزية – القضية الفلسطينية – وكذلك دوره الحاسم في المصالحة المصرية/ السعودية بعد هزيمة حزيران عام 67 والتي أدت إلى وقف حرب اليمن، وكذلك، عن دوره في مؤتمر اللاآت الثلاث في الخرطوم، وإدخال سلاح البترول فى المعركة.