مصطفى ابوالعزائم* يكتب في (بُعْدٌ .. و .. مسَافَة) ..*الشفيع .. ود القرشي ..والذكريات
كل مرّة يطلب إلينا صديق عزيز ، أو أصدقاء أعزاء ، الكتابة في غير موضوعات السياسة ، والتي يبدو إن ما يطلبه الأصدقاء ، ليس هروباً منها ، بقدر ما هو تعبير عن حالة إشمئزاز يعيشونها ، من واقع الممارسة السياسية والحزبية غير الناضجة ، لدى بعض النُخب .. وأجد نفسي أجيب مثلما يجيب غيري لطلبات الأصدقاء الذين أحسنوا الظن بنا ، وهذا يحدث في كثير من مجموعات تطبيق الواتساب ، ولكن أكثر المجموعات إهتماماً بالشأن الفني ، والتوثيق له ، هي مجموعة ( حلقة نقاش ) والتي تجمع حكاماً ومحكومين وساسة ، وأهل صحافة وإعلام ، ورموز ثقافية ورياضية ، ورموز مجتمع ، منهم النجوم والمشاهير ، ومع كل الاختلافات الفكرية بينهم ، إلّا أن الوطن يوحدّهم ، حتى ليتمنى المرء لو كان حال هذه المجموعات ، هو ذات حال النخب السياسية والحزبية والثقافية والاجتماعية والرياضية والإقتصادية التي تدير شأن الدولة .
ما علينا ، صبيحة السّبت ، تم إختياري مع مجموعة من عضوية ( القروب ) للتوقف عند تجربة الفنان الكبير الراحل عثمان الشفيع ، رحمه الله ، وهي تجربة تستحق الوقوف عندها بحق ، فالرجل الذي بدأ حياته ترزياً في مدينة شندي ، نهاية ثلاثينات القرن الماضي وبداية أربعينياته ، كان لمّاحاً ، يتمتع بحسٍّ فني عالٍ ورفيع ، لذلك حفظ أغنيات الحقيبة وأخذ يردّدها ، حتى عرفته كل المدينة ، وأصبح شاديها ومغنيها الذي يشار إليه بالبنان ، حال الحديث عن الغناء والطرب ، وسعى لإقتناء آلة الطرب المصاحبة لكل مطرب حديث ، عقب إفتتاح الإذاعة السُّودانيّة وبروز نجوم جُدد ، حلّوا محل نجوم أخرى لم تأفل ، لكنها أفسحت المجال أمام جيل فنّي جديد ورث تركة غناء المرحلة الأولى أو ما يعرف بأغنية الحقيبة ، وظهر إبراهيم الكاشف وحسن عطية ، وأحمد المصطفى وغيرهم ، ممن إلتف حولهم المستمعون ، لتتغير الذائقة الغنائية العامة ، في واحدة من عتبات التطور الطبيعي في الغناء والأداء والموسيقى ، وفي الكلمة التي تعبّر عن إحساس جيل ذلك الزمان .
مدينة شندي آنذاك ، بل كل مناطق نهر النيل الحالية ، كانت تفتخر بأن أحد أبناء منطقة كبوشية ، كان له الفضل في تأسيس الأغنية السودانية التي أعقبت غناء فترة الدولة المهدية ، والذي كان أكثره يدور حول تمجيد الثورة المهدية وقيادتها ، إذ أن الغناء آنذاك كان محاصراً إلّا في ذلك النطاق ، ولكن ومنذ العام 1914 م مثلما جاء في أغلب الروايات ، كان أحد أبناء كبوشية وهو محمد ود الفكي بابكر ، كان ينتقل بين الحين والآخر إلى مدينة أم درمان ، ويغني ، وهو من يعود إليه الفضل في نشر بدايات الأغنية الأم درمانية التي تطورت لاحقاً لتصبح منذ بداية عشرينيات القرن الماضي ، هي السائدة وهي الأساس ، والتي أطلقها الحاج محمد أحمد سرور ، وهذه قصة أخرى .
الفنان عثمان الشفيع ، كان يستمع ويستمتع بالمدائح النبوية ، التي كان يؤديها والده الذي تميز بصوت جميل ، ورثه إبنه عثمان الذي بدأ مادحاً ضمن مُدّاح الطريقة الختمية ، ثم مؤذناً في جامع منطقة حوش بانقا ، لكن مسيرته الفنية بدأت مع عمله حائكاً يستخدم ماكينات الحياكة الحديثة ، التي كان يتعامل معها كما قال هو نفسه ، كآلة موسيقية ذات إيقاع منتظم ، ولعالم الحياكة حكايات وحكايات مع كثير من المطربين ، منهم عثمان حسين ، ومحمد حسنين “أبوسريع ” ومحجوب عثمان ، وغيرهم رحمهم الله .
بعد إفتتاح الإذاعة بدايات العام 1940 م حدث التحول الأكبر في حياة الشفيع ، فقد أخذ يحفظ ويردد ما تبثه هنا أم درمان من أغنيات للفنانين إبراهيم الكاشف وحسن عطية وأحمد المصطفى ، لتبدأ نقلة جديدة في حياته جعلته يحرص على تعلم العزف على العود كما أسلفنا ، ليظهر لنا مطرب ملء السمع والبصر ، إسمه عثمان الشفيع ، أرتبط بعدها بثنائية قوية مع الشاعر الكبير الراحل محمد عوض الكريم القرشي ، وهذه مرحلة جديدة ، أنتجت بدائع الغناء ، ربما أعتبر أفضلها من وجهة نظر شخصية ، أغنية ( عدت يا عيدي بدون زهور …. وين قمرنا … وين البدور … غابوا عنّي ) وقد رأيت القمر الذي تغنى له الشاعر والفنان ، وعرفت تفاصيل الحكاية .. وهذه قصة أخرى .
Email: sagraljidyan@gmail.com