*بُعْدٌ .. و .. مسَافَة* .. *مصطفى ابوالعزائم* *في ذكرى الصحفي الهدي الرضي ..*
( ياسلااااام ) عبارة وجدتها تنطلق من داخل نفسي إلى خارجها بالصوت العالي ، وأنا أتلقى بالأمس رسالة من أخي وإبن أخي العزيز الأستاذ عوض حسن ، الشاب النشط الأمين العام لإتحاد الشّباب العربي الإفريقي ، وهو يبعث إلي فيها بمقال كتبه أستاذنا وأستاذ الأجيال الكبير الدكتور عبدالسلام محمد خير ، بمناسبة وفاة أستاذنا وزميلنا ، الأستاذ حسن الرضي الصديق ، أحد أبرز وأفضل من تولوا مسؤوليات العمل في سكرتارية تحرير الصحف ، وتمر هذه الأيام الذكرى الثانية عشر لرحيله .. أعيد نشر المقال وأحيي ذكراه وأترحم على روحه الطيبة ، وهذا المقال نشر بعد رحيله في مثل هذه الأيام من العام 2010 م
*(حسن الرضى) .. صناع الصحيفة …*
قرأت ما كتبه رئيس التحرير الأستاذ مصطفى أبو العزائم والصحافى الغيور صديق البادي فى هذه الصحيفة عن رحيل الصحافى الخلوق حسن الرضى عليه رحمة الله .. وبقيت انتظر المزيد عن إنسان من صناع الإبداع الذى يؤهل الصحيفة للتميز والمنافسة والتأثير فتتخاطفها الأيدى (على الريق) . هاتفت أحد المهتمين بالتوثيق للصحافة السودانية(الأستاذ محمد الشيخ حسين)، عله يكون رصد المزيد مما كتب عن صحفي له تلاميذ، ومهنى له دور متميز فى صناعة الصحف، وقد ازدهت اليوم لتذكرنا (أيام حسن الرضي)، ورواد التصميم والإخراج، ومن أرسوا ركائز المطبخ الصحفى فى السودان.. تحدثنا عنهم بشغف وإعزاز، وتمنينا أن يبادر من ينصفهم بالتوثيق والعرفان، كفئة من فئات الإبداع فى البلاد، وممن يضربون المثل فى خاصية (العمل فى صمت)- نعم فى صمت- عايش المرحوم حسن الرضي تجربة (العمل فى صمت)، منذ أن كانت الكلمات تجمع حرفاً حرفاً، ويتم التصميم الصحفي عبر المقص، وعلى أيدي أفراد أشبه بالصاغة، تدب خطواتهم بلا كلل، وطوال الليل بين المطبعة وغرفة التصميم، وذلك قبل أن يصبح هذا العمل الشاق اليوم كالعزف على البيانو، بفضل اكتشافات التكنولوجيا.. والقصة طويلة وأشبه بالأساطير.
رحل حسن الرضى فى خواتيم العقد الأول من هذا القرن الصحفي المولع بالإبهار، وكأنه يقول إن مهمته وجيله قد انتهت، بعد أن أسلموا مهام الإخراج الصحفي لتكنولوجيا العصر، حيث صحيفة بالكامل تطبع وتصمم فى ساعات محدودة، وفى أبهى صورة .. شكراً يا ذلك الجيل، غشيت الرحمة من لبوا نداء الرحيل، والخلود تاركين بصماتهم تتحدث بفضلهم، وفى أعز المهن وأكثرها إرتباطاً بالناس، وهم يبدأون يومهم . أي شئ أعظم من أن يترك الإنسان لغيره أثراً لعمل خلوق، ومؤثر، وقابل للإضافة، والتطور، والمزيد من الإزدهار، وإسعاد الناس؟ .. إني كلما تذكرت بداية معرفتى بحسن بصحيفة (الأيام) منتصف السبعينيات ، كلما اتذكر كم هو رائع أن تتعرف على شخص يحب عمله ومستعد ليفهمك ويساعدك دون أن يشترط عليك سابق معرفة، هذا انطباعى يوم لاقيته لأول مرة، وبيدي مقال للنشر أحرص على أن يخرج للناس فى أجمل صورة… والأستاذ مصطفى أبو العزائم يصنفه(أحد نجوم صحافة الخرطوم ) وأنه ( كان أحد أعلام ركائز سكرتارية التحرير فى الصحافة السّودانيّة ، التى اعتبرها علماً قائماً بذاته له مناهجه ومدارسه ، وكان يتمتع بعقل مرتب ، وذاكرة تختزن مواقع الصور فى الأرشيف ، وأرقامها ونوعية الخطوط المستخدمة ، قبل أن يسهل هذا الأمر بإستخدام أجهزة الحاسوب الحديثة).
وهكذا عرفته أيضاً وكنت اسميه(الصائغ) وأنا أرى كيف أن الكلام المكتوب بخط اليد يتحول الى سطور أنيقة بأحرف منوعة، وخطوط جذابة، وصور إتخذت مواقعها بأنامل سحرية، تدل على العلاقة (الهارمونى) بين سكرتارية التحرير، وعناصر المكتب الفنى المختلفة.
وكأنه كان على علم بشروطي للنشر فى الصحيفة التى أكتب لها، فبالإخراج يحيى المقال أو يموت، وبهذه القناعات يعمل التلفزيون، وتوضع المناهج الحديثة لكليات الإعلام، حيث الشغل الشاغل هو الإطار والتصميم والإبهار، فجانب (الموضوع) متاح على الورق و(النت)، والمهم هو كيف ( يخرج) للناس، وقد اعتادت عيونهم على جماليات الشاشات، وفنون العرض، وفضائل الجودة. اهتمامي بجانب (الإتقان) هو ما عزز علاقتي به بجريدة (الأيام)، وعلاقاتي بالمكاتب الفنية للصحف التى كتبت لها، الى أن جاء عصر التكنولوجيا وألزمنا البيوت، نرسل ما نريد للمطبعة عن طريق الحاسوب ( الإيميل)، ارتحنا، ولكن على حساب أنفاس (مشوار زمان) للمطبعة، وأشواق رؤية(الجنود المجهولين)، ومتعة أن تشهد كيف تولد الصحيفة.
ظل حسن الرضى رمزاً للعلاقات المهنية الأليفة المنتجة لروح العمل(نفس الشغل)، يجبرك على احترام( مهنيته)، لسبب بسيط هو أنه ( يؤدي كل مهمة توكل اليه بهمة عالية)، وهذه من الشهادات التى أوردها (صديق)، وتعمد أن يوثقها من جهة قضائية، ومنها أيضاً أنه (يستغرق العمل كل وقته وجهده، ولكنه زاهد ولا يرغب فى امتلاك أي شئ فى الدنيا).. ونسب ذلك لمولانا القاضي الذى عرف حسن عن قرب، وصديق البادي الذى عرفناه من مقالاته، ليس أقل إنصافاً من القضاة، ومن أقواله التي تشبه الأحكام.. حسن الرضي عرف بأنه كان عاشقاً لعمله الذى يجري حبه فى عروقه مجرى الدم، أول من يحضر لدار الصحيفة، وآخر من يخرج، كان كشجرة البنفسج التى يشم الناس عبيرها الفواَّح وأريجها الطيب، دون أن يراها، يأخذ أقل مما يقدم ويعطي، أمضى فى الصحافة خمسين عاماً، ولم يجد تكريماً يليق به).. (آخر لحظة) 14 مارس. وهذا مطابق لما كنت عرفته عنه، ومنه أيضاً أنه كان من خير ما قدمت الأقاليم للمركز، ووجدت في ذلك عزاء، خاصة وقد سبق أن انفرد أبو العزائم الابن بشهادات أخرى، منها أنه(كان مرجعاً لنا) 11 مارس، وحين أرى الناس صباحاً بالمكتبات يتسابقون على اقتناء صحيفتهم المفضلة ، يعجبني ذلك ، واتمنى لو أنهم تعرفوا على دور هذه الهيئة الإبداعية (السكرتارية والمكتب الفنى) التى تصنع كل الفرق بين صحيفة وأخرى.. هناك كتب خرجت للناس تعرفهم بهذه الآلية الساحرة التى تعمل فى صمت ، فرأيت فى ذلك أبلغ الوفاء لسيرة حسن الرضي وأترابه ، ممن عرفنا فضلهم فى صناعة الصحف (فى صمت)، إن(صناعة الصحيفة) هي الآن علمٌ يدرس فى الجامعات.والأستاذ محمد حسنين هيكل كتب مقدمة لاحدى هذه الكتب، كدليل على علو شأن هذا النفر من صناع الجريدة، وقربهم من رؤساء التحرير والقيادة العليا للتحرير، الذين يمضون الليل ساهرين من أجل اللمسات النهائية، للصفحات التى سيلتهمها القارىء بعد قليل، أو يدير ظهره.
Email : sagraljidyan@gmail.com