(تأملات) ..جمال عنقرة .. الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني.. ديجانقو أفرز
من طرائف ولطائف السينما في ستينيات وسعينيات القرن الماضي أن كثيرين من جمهور “الشعب” والشعب هذه هي الدرجة الشعبية، فكان أكثر هؤلاء الجمهور من الأميين الذين لا يقرأون ولا يكتبون، وبالطبع لا يعرفون اللغات الأخري التي يتحدث بها أبطال الأفلام، لا سيما الإنجليزية والهندية، ومع ذلك كانوا يجتهدون في ترجمة ما يقوله الأبطال بناء علي الحركات والمواقف، ويفعلون ذلك بأصوات مرتفعة، وأذكر في واحد من أفلام رعاة البقر الأمريكية، والذي كان ببطولة النجم المشهور “ديجانقو” فتح البطل باب الحانة برجله، ودخل يتحدث للحاضرين، فقال أحد ناس الشعب “قال ليهم يلعن ابوكم” فوقف واحد من رواد الحانة معترضا، فقال الشعبي “قال له ديجانقو افرز” وهنا فتح ديجانقو النار عليهم جميعا وارداهم قتلي.
تذكرت هذه القصة يوم أمس الأول السبت وأنا أتابع ردود الدكتور الهادي إدريس رئيس الجبهة الثورية، عضو مجلس السيادة، علي أسئلة بعض الزملاء الصحفيين عن الإسلاميين والمؤتمر الوطني، ودعاهم إلى التفريق بين الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني، وقبل الدخول في الموضوع لا بد من شكر مستحق للزميلة العزيزة مشاعر عثمان، التي رتبت دعوة الإفطار هذه في بيت دكتور الهادي، وأقول احقاقا للحق، فلقد وجدنا أنفسنا أمام زعيم حقيقي، وسياسي، ومفكر، واعترف أني شخصيا كنت أعتقد أن التسويات والترضيات والموازنات هي التي وضعت الرجل في هذه المواقع المرموقة، ولكننا نجدناه علي عكس ما كنا نظن، وتوقع كثيرون أن يكون له شأن عظيم في السياسة السودانية، وهو فوق تأهيله الأكاديمي، متحدث لبق، ومستمع جيد، يحترم نفسه، ويحترم الآخرين.
وفي تقديري أن المؤتمر الوطني صفحة يجب أن تطوي إلى الأبد، وأول من يجب عليهم طيها منسوبو الحزب، وفي مقدمتهم قادة هذا الحزب، واستغرب لبعضهم، أو بعض المتماهين معهم يعترضون علي استثناء حزب المؤتمر الوطني من معادلة الحكم في هذه المرحلة، فالمؤتمر الوطني صار تاريخا، ليس لأن حكومته سقطت في الحادي عشر من شهر أبريل عام ٢٠١٩م، ولكن لأنها سقطت قبل ذلك بكثير، عندما فقدت كل مقومات البقاء، وصدق عليه هتافهم وشعارهم “ما لم يتجدد يتبدد” والمؤتمر الوطني لم يتجدد فتبدد، ومعلوم للجميع أن الذين سددوا له الضربة القاضية الفنية، كانوا من منسوبيه، واوليائه، أو علي الأقل الذين قدمهم لمواقع قيادية متقدمة أمنية وسياسية وتنفيذية، وتنظيمية. وحدث للمؤتمر الوطني ذلك لأنه لم يستجب لكل دعوات الإصلاح والتجديد، وآخر فرصة اضاعها كانت فرصة يوم الجمعة الثاني والعشرين من شهر فبراير عام ٢٠١٩م، عندما اجبر المكتب القيادي المشير البشير علي التراجع مما التزم به للجنة الأمنية، التي اتفق معها علي حل كل أجهزة الحكم علي كافة المستويات، والاستقالة من الحزب، وتشكيل حكومة كفاءات قومية وطنية، والتأكيد علي عدم خوض انتخابات عام ٢٠٢٠م، وكان تراجعه هذا الذي أجبره عليه المكتب القيادي للمؤتمر الوطني، هو بداية النهاية، ونهاية البداية.
ورغم أنه ليس موضوعيا أن يطلب المؤتمر الوطني الإستمرار في بإسمه وقيادته القديمة، ليس موضوعيا أيضا أن يطلب البعض إقصاء أي إنسان كانت له علاقة بالمؤتمر الوطني، فسنوات حكم الإنقاذ الثلاثون شارك فيها كل أهل السودان تقريبا، بمن في ذلك الذين يحكمون اليوم ويدعون الثورية، والاغرب من ذلك أنه في مرحلة النشوة الثورية تم فصل عاملين كثر من الخدمة المدنية بحجة انتماءاتهم السابقة للمؤتمر الوطني، رغم أن وظائفهم التي فصلوا منها ليس لها علاقة بالسياسة.
اما بالنسبة للحركة الإسلامية، فهذا شأن مختلف، رغم المحاولات اليائسة التي يقوم بها البعض تصفية حساباتهم معها بتحميلها كل اوزار نظام الإنقاذ، ودائما ما اقول أنه مثلما كان أول شهيد في الإنقاذ من الإسلاميين، كان آخرهم أيضا من الإسلاميين، واعني بالأول الشهيد داود بولاد، وبالأخير الشهيد الأستاذ أحمد الخير، وبينهما ارتال من الشهداء والمناضلين، وتشهد الساحة السياسية أن الإسلاميين كانوا الاشرس والاقوي في معارضة الإنقاذ ومنازلتها، ولقد قامت أحزاب وتنظيمات معارضة ومناهضة لنظام الإنقاذ، قوامها اسلاميون، مثل المؤتمر الشعبي، وحركة الإصلاح، ومنبر السلام العادل، ودولة القانون وغيرها.
ومع ذلك ليس موضوعيا أن يحاول الإسلاميون الخروج إلى الساحة العامة بذات البضاعة التي خرجوا بها من قبل، ورغم اعتباري التيار الإسلامي العريض التي تشكل مؤخرا خطوة موفقة، لكنها غير كافية، فكان الاجدي لهم والاجدر أن يبدأوا من حيث انتهي عبقري الفكرة وعرابها الراحل المقيم الشيخ الدكتور حسن الترابي، واعني المنظومة الخالفة التي طرحها مشروعا طموحا لوحدة كل القوي الوطنية السودانية، وهذا ما كان يرتجي أن ينشده الإسلاميون في هذه المرحلة، وهم الأقدر علي ذلك، وعلي عاتقهم تقع المسؤولية الأعظم، وفي تقديري أن الفرصة لا تزال موجودة، والساحة مهيأة لذلك، وتنتظره.