جمال عنقرة يكتب في (تأملات) .. البرهان .. أكرب قاشك
لست من الذين يدعون إلى حكم العسكر، ولم أساند يوما من الأيام دعوة أو مسيرة خرجت تدعو لتفويض الجيش لحكم البلاد، لم أفعل ذلك أولا لقناعتي أن الجيش ليس من حقه أن يحكم البلاد، لا بلدنا ولا أي بلد آخر، ثم أن جيش السودان لم يحدث له أن حكم البلاد إلا في فترة حكم الفريق إبراهيم عبود له الرحمة والمغفرة، وكما هو معلوم فإن الجيش في فترة عبود لم يطلب السلطة، ولم يسع إليها، وإنما سلمت له من قبل رئيس الوزراء آنذاك السيد عبد الله بك خليل له الرحمة والمغفرة، نتيجة للصراعات الحزبية، والمخاوف السياسية التي اشتعلت في تلك الفترة، وأول ما خرجت الجماهير إلى الشارع تطلب من العسكر التخلي عن الحكم والعودة إلى الثكنات، استجاب الفريق عبود يرحمه الله وحقق لهم ما أرادوا، أما فترتا حكم نميري والبشير فلم تكونا حكومتين عسكريتين، ولم تنفذ المؤسسة العسكرية إنقلابا، لا في مايو ١٩٦٩م، ولا في يونيو ١٩٨٩م، ولم يكن الجيش أكثر من واجهة فقط، ففي مايو ١٩٦٩م خطط ونفذ الحزب الشيوعي السوداني الإنقلاب، وفي يونيو ١٩٨٩م فعلتها الجبهة الإسلامية القومية، والجيش برئ من كلا الإنقلابين، ومما دعاني أيضا عدم مساندة أي دعوة لتفويض الجيش خلال هذه الفترة الإنتقالية بعد سقوط نظام الإنقاذ، بل معارضة كل دعوات تفويض الجيش أن كل الذين يفعلون ذلك يريدون للمؤسسة العسكرية أن تنتصر لهم علي خصومهم، وتمكنهم من السلطة تحت غطاء حكم العسكر الإنتقالي، وتلك دعوات حق أريد بها باطلا.
وما ادعو له اليوم سعادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان القائد العام للقوات المسلحة، ورئيس مجلس السيادة، ليس الاستيلاء علي الحكم، ولا الانفراد به، ولكن أدعوه لتحمل المسؤولية التي وضعت في عنقه كاملة، والكل يعلم أن السيد البرهان لم يكن عراب التغيير الذي حدث في الحادي عشر من شهر أبريل عام ٢٠١٩م، بل قد لا يكون دوره أساسيا فيه، ولكن تطور الأحداث الدراماتيكي المتسارع وضعه في القيادة، ووضع المسؤولية في عنقه، وهو بالتالي يعتبر المسؤول الأول عن كل ما جري ويجري، ولم يتعرض السودان إلى فتنة في تاريخه القريب والبعيد مثلما يتعرض له الآن، فلقد انتهكت كرامته، وسلبت ارادته، وارتهن قراره لغير أهله، وكما هو معلوم فإن ثورة ديسمبر رغم عفوية انطلاقتها الشعبية، لكنها سرعان ما وقعت في براثن قوي خارجية اقليمية ودولية، واستخدمت مخالب قطط داخلية، فضلت الثورة طريق مسارها الوطني، ولعل الناس يذكرون أن أكثر من سفير عربي وغربي ذكروا في اكثر من محفل أنهم كانوا داعمين للثورة، وأنهم كانوا سببا في إسقاط نظام الإنقاذ، علي الرغم من أن بعضهم – لا سيما العرب – كانوا متوافقين تماما مع حكام الإنقاذ الذين قدموا لهم ولبلادهم ما لم يقدمه أصدق أصدقائهم، وليس الموقف من حرب اليمن ببعيد، وهؤلاء صاروا يعيثون في بلدنا فسادا، لدرجة أن الرئيس البرهان وكذلك وزارة الخارجية كانوا قد حذروهم من تجاوز حدود السفارة المتعارف عليه، والمسموح به، ولقد تكشفت كل الأيدي الخارجية، والداخلية العميلة الماجورة في صناعة التغيير، فوصول الثوار إلى القيادة حوله أكثر من كلام، وتأكدت بعد ذلك الرعاية الخارجية والداخلية للمعتصمين، فلقد صرفوا مئات الملايين من الدولارات علي طعام وشراب المعتصمين، وكان الوسيط في ذلك بعض رجال الأعمال السودانيين غير الوطنيين، ومنهم من يأتي علي رأس الأربعة الذين حملهم بيت الخبرة الأجنبية مسؤولية تدمير الإقتصاد السوداني، فهؤلاء المتآمرون الإقليميون والدوليون، مع مخالب العمالة الداخلية لا يزالون يحكمون ويتحكمون في الشأن السوداني، ويسعون إلى استكمال مشروع السلب والنهب والتدمير، والذي صار يقوده المسؤول الأممي فولكر بيرتس، ويحاول أن يحسن صورته، بإستخدام ممثلي الإتحاد الإفريقي والايقاد ديكورا له. ولقد استخدموا في ذلك بعض أحزاب غير ذات شأن، وبعض قيادات حزبية رخيصة، استمالوها، واشتروها فصارت تسبح بحمدهم، وترفع شعارات مزورة تحاول بها تضليل الشارع، وتغبيش الرؤية، مثل المدنية، والحرية وغيرها.
إن أكثر من تصريح للسيد البرهان تؤكد أنه عارف بكل تفاصيل هذه المؤامرة الدولية الإقليمية والداخلية الساعية إلى مسخ وتدمير السودان، وليس أدل علي ذلك من تحذيره للسيد فولكر، وتهديده له بالطرد من البلاد إذا استمر في تجاوز التفويض الممنوح له، ولكن فولكر لا يزال يتمادى، وعملية السلب والنهب والتزوير لا تزال مستمرة، ولا يزال السيد البرهان، يهدد ويتوعد، ويضرب خارج التختة، بل إن كثير من الأسلحة التي يستخدمها “فشنك” وأكبر فشنك، هم من يحاول أن يحتمي به، ويتخذهم درعا واعيا، ويظن أنه بهم يمكن أن يعبر وينتصر، وهؤلاء أقل شأنا، واضعف عدة وعتادا، من الذين ظن رئيس الوزراء المقال أولا ثم المستقيل أخيرا الدكتور عبد الله حمدوك، كان يتوهم أنه بهم يمكن أن يعبر وينتصر، فهؤلاء سيكونون كلا عليك السيد البرهان أينما توجههم لن يأتوك بخير، فدعك منهم، فهؤلاء لا خير فيهم ولا كفاية شرهم.
الخيار الوحيد المتاح لك السيد البرهان، ولشعبنا، وبلدنا، أن تكرب قاشك، وتتوكل علي الله ربك، وتراهن علي شعبك، وتتخذ القرارات والإجراءات التي يمكن أن تعيننا معا علي العبور والانتصار، أول هذه الخطوات، أن تطوي كل صفحات الحوار الملغومة الدولية والمحلية، وتوقف كل السفراء المتمددين عند حدودهم، وأن تبتعد عن كل القوي والتجمعات السياسية، الأربعة، والتسعة، الطويلة والقصيرة، المركزية، والميثاق الوطني، والحركات، والمسارات، وغيرهم، وتتركهم جميعا وشانهم، ولا يكون لأحد منهم شأن بالحكم ولا الحكومة، وتجود تشكيل الحكومة الحالية، وكنت قد اقترحت قبل ذلك أن تعتبر هذه الحكومة القائمة هي حكومة ما تبقي من الفترة الإنتقالية، مع بعض التجويد والتعديل، إلا أن مقترحا أتاني من أحد القراء استحسنته، وهو أن يصير هؤلاء الوزراء المكلفون وكلاء للوزارات، ويصير الولاة أمناء للحكومات الولائية، ثم يتم اختيار وزراء من أهل الاختصاص، فمثلا لوزارة الخارجية يستدعي نحو خمسين من السفراء المخضرمين يرشحون من بينهم ثلاثة يدفعون بهم لمجلس السيادة يختار منهم واحدا يصير وزيرا للوزارة، ويجري ذلك علي كل الوزارات، أما بالنسبة للولاة فيتم إختيار مجموعة من الضباط الإداريين المخضرمين من أبناء كل ولاية، ويرشحون من بينهم ثلاثة يرفعونهم إلى مجلس السيادة ليختار من بينهم واليا للولاية، ويجوز في حالة الوزراء والولاة أن ترفع بعض الأسماء المكلفة حاليا ضمن الثلاثة المرشحين، إذا استأنس المرشحون فيهم الكفاءة.
وفي ذات الوقت تبدأ فورا إجراءات الإنتخابات، ويتم في الأول تحديد الوقت المناسب لقيام الإنتخابات بناء علي مطلوبات ذلك، ويتم استكمال الأجهزة العدلية والقضائية، وتنشا المفوضيات الأساسية، مفوضية العدالة الإنتقالية، ومفوضية مكافحة الفساد، وغيرها من المفوضيات المهمة.