(أنا ….كردفان) ..من كتاب “صيد الخاطر” للكاتب محمد أمين ابوالعواتك
سعدت باني كنت واحدا من الذين استظلوا بسماء كردفان السودان وقضيت فيها سنوات من صباي الباكر اوائل سبعينيات القرن الماضي في مدينة الابيض وتنقلت في ربوعها ووديانها ورمالها..في زمن كانت فيه الاشياء ندية..طبيعية كما خلقها البديع المصور في ابهي واجمل واكمل الصور وزادها جمالا…انسانها … واخلاقه الممعنة في الصفاء كحبيبات رملها المتوهج كالتبر..وذلك الحضن الدافئ لكل وافد من كل مكان حتي صارت بحق بوتقة انصهرت فيها كل الاجزاء والالوان والالسن فصارت نكهة سودانية خالصة.
تحدث الكثيرون عن (السودانويه) ذلك الحلم السوداني المفقود…و اقول بمنتهي الاطمئنان ان كرفان التي نعمنا بها في السبعينيات كانت بحق هذا الحلم الذي جسد الانصهار الحقيقي لاهل السودان وحققت المعجزه في طوعيه تامة وسلاسه مدهشة بعيدا عن كل ارتجال وتخبط وفوقية..
والتي مثلت كل السودان بكل الخير .. وكل الصفا.. حتي كتبت فيها الامثال (كرفان الغره ام خيرا جوه وبره) وغني لها عديد الشعراء وذابوا هياما وعشقا فيها (مكتول هواك ياكردفان) .. فالذي قضي بعض الوقت فيها يدرك بصورة اعمق من غيره الاشياء والدلالات والمعاني لاسيما تلك المرتبطه بانسانها وقيمه والمعاني المشتركة التي تجد بعض ملامحها في تراثها الفني في الشعر والغناء والموسيقي.
و رغم ان الموسيقي لغه عالميه الا ان سمت كردفان ظل شديد التميز بسحنته التي تتدفق حنينا كحنين اهلها وطيب معشرهم وسماحتهم (زولا سمح صوره بالفاتحة بندوره) عند عبد الرحمن عبد الله …فاهل كرفان يسمون الانسان الجميل (زول صوره) و عند عبد الرحمن عبد الله نفسه (جدي الريل ابو جزيمة..تعال نتمشي في الغيمة…دي غيمة ريد تكب في رهيد) و (خلوني نصنقر جنبا..ولي فوق ضل البرنده) مفردات في غاية البساطة يتم استخدامها بصورة تجعلها تمتطئ صاروخا الي سويداء قلبك…… وكردفان الام الرؤوم يعلم من عاش فيها وخالط اهلها ذلك المزاج المنفتح المضياف لذا كانت وطنا لكل اهل الدنيا وليس السودان فحسب، فالاستماع الي اي مفرده او لحن من العبقري ابراهيم موسي ابا او عبد القادر سالم اوالبلبل عبد الرحمن عبد الله او محمود تاور لتعرف ذكاء استخدام المفرده البسيطه المرتبطه بالارض وترانيم انسانها فتنبع منك شلالات السرور والفرح والسعادة…. تذوق طعم موسيقي كردفان اليوم لتفتح لك نافذه الي ارض الاحلام.
هل لايزال نساء بوادي كردفان (دري) يحملن اللبن في طرقات الابيض زمان الخريف (الخرافي) ويبعن (القراقير) بازيائهن الجميلة وحفلتهن المميزه؟
وهل لازال العم (جبير) او ابناءه يقدمون تلك (الطعميه) الشهية في شارع النهود؟وابواب جروبي وسلارا لاتزال مشرعه؟
هل تواصل الابيض الاميرية في تخريج النجباء؟ وهل لازال اولاد جادين يمارسون هوايتهم المفضلة في تقديم الافذاذ في كرة القدم؟
وهل..؟؟؟
لازلت اذكر ..النسو ومكي و النور وكشولا وزمبل وطارق طايوقه وتنقا والمرحوم جمال جادين والرمز العم سليمان دقق وكل رموز الابيض في المجالات المختلفة.
في مخيلتي دائما الفوله وخور طقت وسوق اب جهل وسوق المحاصيل والسكة حديد والبان جديد..
ونذكر ذلك (المهول) ود القرشي:
( القطار المرا فيهو مر حبيبي) و ( اليوم سعيد وكانو عيد يلا يلا جناين البان جديد).. وفنان الفنانين خليل اسماعيل.
اذا لم تشهد فصل الخريف في كردفان فانت لم تعرف السودان ..واذا لم تمر بكرفان فلم تتذوق سودانيتك بعد..
فنحن من جيل كان (تلغراف النقلية) يلعب دورا مهما في تشكيل وجدانه ويربط اهل السودان في جميع اصقاعه لذا تشكل وجداننا بالوطن الكبيرالسودان دون الانحياز لمكان او جهوية…فانا ولدت بالنيل الابيض ودرست ببخت الرضا..وقضيت صباي في كردفان وتربيت في كل مدن السودان في وسطه وشماله وغربه وجنوبه ..ايام كان للسودان خدمة مدنية لامثيل لها في كل الدنيا..قبل ان تعبث بها ايادي البعض ..لامكان للمجاملات والانتماءات الضيقة فيها..فقط الاقدمية والكفاءة والانضباط..فعندما يعود والدك في اخر يوم العمل وهو يحمل ذلك التلغراف مرددا..(جاتنا نقلية) وينفذ بلا تردد التكاليف مهما كانت القبلة او امتدادات الواقع المعاش في مدارس الابناء وغيره من الرباطات الاجتماعيه الاخري يزرع فيك ذلك منذ الصغر ان هناك نظام محترم ويحترم.. ويقوي رباط الاسرة الصغيرة ببعضها لانها هي الثابت في محطات ووجوه متغيرة علي الدوام.. ويعلمك ايضا في كل مرة اكتساب الصداقات والعلاقات مع المجتمع المحيط والاثر الكبير لذلك في بناء الشخصية فضلا عن المقاصد الانسانية الكبري .
ومكتول هواك ياكردفان..
* كتاب “صيد الخاطر”
* محمد أمين ابو العواتك
https://www.facebook.com/profile.php?id=100010196620744