بُعْدٌ .. و .. مسَافَة* *مصطفى ابوالعزائم* *حديث ” بحر” والخريف وما بعده
أذكر تماماً أن صديقنا الأستاذ بحر إدريس ابوقردة ، عندما كان وزيراً للصحة في فترة ماضية ، إستضافته قناة النيل الأزرق الفضائية ، وتطرق الحديث معه في برنامج ” حوار مفتوح ” إلى الأسباب التي تؤدي إلى إنتشار الأمراض والأوبئة في مجتمعتنا خاصةً في الريف ، تحديداً الإسهالات المائية ، وقد كانت إجابة الأخ ابوقردة صادقة ، وصادمة في ذات الوقت ، وكان ذلك إن لم تخنّي الذاكرة أواخر يوليو من العام 2017 م ، والخريف في أوجه ، وكانت أمراض الإسهالات قد ضربت القرى والحضر .
تذكّرتُ ذلك اللقاء هذه الأيام مع التحذير المستمر من قبل السلطات الصحية ، من إنتشار الأوبئة والأمراض في الفترة التي أعقبت السيول والأمطار ، التي تسببت في خسائر بشرية و مادية ناتجة عن أخطائنا في التخطيط ، وناتجة عن العشوائية في تعاملنا مع الإحتمالات المتوقعة عقب كل خريف .
أما إجابة الأستاذ بحر إدريس ابوقردة وزير الصحة الإتحادية في ذلك الوقت فقد علقت عليها بمقال حمل إسم :
” شياطين في بيوت الأدب.. ! ”
وكان هذا بعض ما جاء فيه وقتذاك مع التحديث :
من غرائب الأخبار وعجائبها ما جاء على لسان السيد الوزير أن بعض أهل القرى يرفضون إنشاء “المراحيض” داخل المنازل بزعم أنها تجلب الشيطان ، ويفضّلون قضاء حاجتهم في العراء ، وهو ما يساعد على إنتشار بعض الأمراض ، وكان يقصد تحديداً الإسهال المائي .
قطعاً هذا الأمر يحتاج إلى تدابير و مجهودات جبارة حتى تتغير المفاهيم ويتم إلغاء ثقافة قديمة ومحوها ، لتحل محلها ثقافة جديدة ، وذلك من خلال حملات توعية متواصلة من على منابر المساجد وداخل فصول المدارس ، حملة تشارك فيها كل أجهزة الإعلام المقروء والمسموع والمرئي والإلكتروني متمثلاً في وسائل التواصل الإجتماعي ، وهي الأكثر تأثيراً الآن ، لكن المشكلة تكمن في تعدد المنافذ والقنوات والفضائيات ومصادر المعلومات ، لذلك لا بد من وضع خطة محكمة لتحقيق ذلك الهدف ، من خلال ما يُعْرف بصناعة المحتوى .
إلى وقت قريب كانت بعض الأحياء المخصّصة لفئات أو شرائح محددة ، تشهد قيام المراحيض في وسط تلك الأحياء ، مثل “القشلاقات” الخاصة بالقوات النظامية ، و كلمة” قشلاق ” كما نعلم جميعاً هي كلمة تركية تعني “مسكن العسكر” وأخذنا ننطقها بـ”الألف” بدلاً عن ” القاف” لنقول “إشلاق”، وقد أخذناها عن إخواننا المصريين الذين كانوا جنوداً في جيوش محمد علي باشا التي غزت السودان وأسست ما يعرف ب ” التركية السابقة ” ، ضمن ما أخذناه من كلمات تركية كثيرة ومنها “الأدب خانة” التي نقولها مدمجة ” أدبخانة” .
وأسماء المرحاض عندنا تتعدّد ، فالبعض كان يقول ” كنيف “وهذه اللفظة تكاد أن تكون قد زالت تماماً من الإستخدام ، إلا لدى قلّة قليلة ، وهي كلمة عربية فصيحة تعني “الساتر” وجمعها ” كُنُف” كما تعني الترس والحظيرة، والظلة فوق باب المنزل، وتعني مكان النظافة، والبعض يطلق على المرحاض ” بيت الأدب ” وهو الاسم الذي كان أكثر شيوعاً قبل التشبه بالفرنجة الذين يطلقون على ” الكُنُف ” اسم دورات المياه ، وهم عندما يسمّونها كذلك فلأن مراحيضهم مرتبطة بمجاري الصرف الصحي ، وبعض ما جاء إلينا من تطوير للمراحيض ، كان حفر آبار السايفون المتصلة بالمياه الجارية تحت سطح الأرض ، فأصبح بعضنا يطلق على المرحاض إسم “دورة المياه” وهو محق .
الأجيال الجديدة أصبحت لا تستخدم تلك المفردات مثل “الكنيف” أو “بيت الأدب” أو “الأدبخانة”، أو الـ”W.C” وتعني أيضاً دورة المياه ، فأكثر أبناء الأجيال الجديدة يطلقون على المرحاض إسم “حمام”حتى وإن لم يكن هناك رابط عضوي وحقيقي بين المرحاض ، ومكان الإستحمام ، لأن ذلك يتوفر في ما نسميه بالحمامات الإفرنجية .
صديقنا الوزير “بحر أبو قردة” فتح آنذاك باباً ظل مغلقاً لسنوات لم يجرؤ أحد على طرقه لأنه حساس ، ويرتبط لدى البعض بمعتقدات راسخة في العقول ومتوارثة ، إذ إن هناك قناعات ثابتة بأن الجن والشياطين يوجدون عادة في “الخلاء” أو مناطق قضاء الحاجة ، أو المراحيض– سمّها ما شئت – ويوجدون عادة في البيوت والغرف المهجورة ، أو تلك التي تنبعث منها روائح نتنة وكريهة ، أو تلك التي ترتكب فيها المعاصي أو تُعلّق فيها الصور والتماثيل ، وفي زوايا الغرف.
هناك أحكام شرعية حول بناء وأماكن المراحيض ، إذ يُروَى عن النبي الكريم سيدنا محمد “صلى الله عليه وسلم” أنه قال: ” لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ، ولكن شرّقوا وغرّبوا ” ، وكل الأحاديث الصحيحة تنهي عن ذلك ، لكن يستدل بأحاديث أخرى أنه لا بأس من إستقبال القبلة وإستدبارها إذا كان هناك بناء – حائط – أي أن المرحاض هو مبنىً منفصل داخل المنزل .. ويُستحَب دائماً أن يكون المرحاض بعيداً عن بقية غرف المنزل ، قريباً من المداخل .. وهذا كان شائعاً إلى وقت قريب في منازلنا قبل أن تزحف “الحمامات” الإفرنجية وتحل محل القديمة ذات الأسماء الكثيرة .
Email : sagraljidyan@gmail.com