*مصر والسودان إلى أين؟* .. * دكتورة / اماني الطويل
تمر التفاعلات المصرية السودانية بلحظة حرجة تحت مظلة أزمة شاملة لا تستثني حتى المكون الدولي صاحب مشروع رعاية التحول الديمقراطي السوداني، ويبدو فيه أن الاتفاق الإطاري الموقع بين الأطراف السودانية على الحافة.
وطبقا لعناصر هذه الأزمة فإن المشهد السوداني يبدو غائما ومفتوحا كعادته على سيناريوهات مهددة للدولة ذاتها.
عناصر الأزمة على الصعيد المصري السوداني مرتبطة بمبادرة قدمتها مصر لحوار سوداني سوداني، بعد أن بلور تحالف الحرية والتغيير المركزي رؤية بشأن أطراف الاتفاق الإطاري الموقع مع المكون العسكري في مطلع ديسمبر الماضي، مستبعدا حواضن انقلاب 25 أكتوبر السياسية وهي الحواضن التي تدعو مصر لضمها لأي اتفاق سياسي بهدف شموليته من ناحية، وتوفير عناصر استمرار العملية السياسية من ناحية أخرى.
انقلاب 25 أكتوبر في العاصمة الخرطوم
الطرح المصري يواجه جدلا واسعا في السودان يأخذ أبعادا إعلامية، وكالعادة التاريخية هناك انقسام حوله متعدد المستويات فهناك فريق منقسم بدوره، طرفه الأول يتهم الموقف المصري بأنه دور جاء متأخرا وهدفه الأساسي هو ممارسة نوع من الإغراق السياسي للقوى الثورية بهدف نهائي هو تعويق التحول الديمقراطي في السودان وممارسة عملية إسناد سياسي ممنهجة للمكون العسكري السوداني، وقد تزعم هذا الفريق إصدار بيان رافض للدعوة المصرية.
أما الطرف الثاني فيقول إن التعامل بهذه العدوانية إزاء الطرح المصري غير مفيد للسودان على المدى القصير والمتوسط، باعتبار أنها دولة جوار جغرافي مباشر، وأن الاستقواء عليها بالمجتمع الدولي يعرض السودان لمخاطر كبيرة، خصوصا أن الشركاء الدوليين لديهم أجندات خاصة متغيرة، ومتأثرة بمسارات التنافس الدولي على السودان، وأنهم أيضا طبقا لمعطيات جيوسياسية حضورهم قد يكون مؤقتا من ناحية، ومرتبطا بالمتغيرات الدولية وشواغلها وطبيعة أوزانها من ناحية أخرى.
على الصعيد السوداني فشلت جهود قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، للتقريب بين الأطراف المدنية بهدف ضم توسيع قاعدة المشاركة في الاتفاق الإطاري لضمان استمراريته، في وقت اعترف فيه بيرتس فولكر، رئيس البعثة الأممية في السودان، بأن هناك أزمة ثقة بين المكون العسكري والمكون المدني من ناحية، وبين المكونات المدنية بعضها البعض من ناحية أخرى، تحت مظلة صراع سياسي حاد.
هذا المشهد المعقد يتطلب مقاربات قد تساهم في حلحلة الموقف الراهن بهدفين الأول تحقيق منصة مناسبة لنجاح الاتفاق الإطاري واستمرار دوره وصولا للاتفاق النهائي بهدف إطلاق عملية تحول ديمقراطي حقيقي يتطلع لها السودانيون والقوى الديمقراطية في الإقليم.
أما الهدف الثاني فهو محاولة وقف الجدل السلبي بشأن ما يسمى بالمبادرة المصرية في السودان، وخلق فرصة لإدراك الجانبين لبعضها البعض على نحو أكثر إيجابية، تجنبا لتعطيل العملية السياسية التي نرجو لها نجاحا يصب في صالح السودان وأهله.
على صعيد قوى الاتفاق الإطاري أقترح أن تمارس الأطراف الموقعة عليه ممارسة ترتقي من الممارسات السياسية السودانية التنافسية إلى ممارسات رجال الدولة الذين يضعون الأولويات الوطنية والاستراتيجية على رأس أولوياتهم، وهو الأمر الذي يتطلب مرونة محسوبة بشأن توسيع قاعدة المشاركة في الاتفاق الإطاري بشرط عدم إغراقه سياسيا، وإعادة النقاش الداخلي مرة ثانية بشأن تصنيف القوى السياسية السودانية بين من هو ثوري وماهو انتقالي، خصوصا وأن خطيئة حواضن الانقلاب العسكري قد يقابلها ولكن بدرجات أقل بكثير، أخطاء مارست انقساما وتنافسا واستوزارا دمر فرص حكومتي حمدوك وعطل التحول الديمقراطي، وشكل ضغوطا مرعبة على حياة المواطن العادي في معيشته اليومية.
من هنا يبدو ضروريا في تقديري تواضع أطراف الاتفاق الإطاري لقبول الأطراف الحزبية ذات الأوزان الانتخابية، والأطراف الموقعة على اتفاق سلام جوبا للمشاركة في هذه المرحلة، بشرط أن يتفهم الأخيرين بدورهما أنهما لن يحصلا على أدوار البطولة، وأن خطيئة استدعاء الانقلاب العسكري لها ثمن سياسي لابد من دفعه، وأن إقليم دارفور على وجه التحديد معرض للانفصال عن الوطن الأم وستكون الفصائل المسلحة وعلى رأسها جبريل ومناوي متحملين مسئوليته الأخلاقية والسياسية
وفيما يتعلق بموقف الحرية والتغيير (المركزي) من مصر فإني أدعوه للتعرف على ثلاث متغيرات مهمة في المرحلة الراهنة، منها أولا: أنه إذا كان هناك ميلا تاريخيا لمصر الرسمية بإسناد المكون العسكري السوداني فإن هناك معطيات جديدة ساهمت في تحجيم هذا الميل، راهنا منها ضعف المكون العسكري السوداني إلى نحو غير مسبوق، وانقسامه، وأيضا وجود توجهات دولية ممنهجة وفاعلة خصوصا على الصعيد الاقتصادي بخفض قدرات هذا المكون في صناعة القرار السياسي السوداني.
ثانيا: أن هناك فرصة أمام الحرية والتغيير بتحييد القاهرة في هذه المرحلة سعيا إلى كسبها إلى جانب المعسكر المدني في مراحل مقبلة، وربما تكون هناك فرص ماثلة لفتح حوار له طابع مستقبلي بين الطرفين، بشرط التخلص من الهواجس إزاء مصر وتحجيم الضغوط الشعبوية، التي تلعب فيها أطراف خارجية مضادة لمصالح شعبي وادي النيل، أدوارا قاتلة لمصالح السودان ومصر معا.
ثالثا: أن مصر ربما تشهد على الصعيد الداخلي متغيرات مهمة في غضون الستة أشهر المقبلة، كنتيجة للحوار الوطني الداخلي، إذ بدأنا نلمس مؤشرات لها برفع محدود لأسقف التعبير السياسي، ومساحات عمل مجالس متخصصة في مجال حقوق الإنسان ومراكز الأبحاث، فضلا عن الإفراج عن محبوسين سياسيين ورجال أعمال، وبطبيعة الحال سينعكس كل ذلك بالضرورة على الأدوات والآليات المصرية في المحيط الإقليمي، وبالتالي فإن هناك فرصة لتجنب معارك سياسية مع مصر في هذه المرحلة والتخلي عن أساليب المكايدات السياسية، اعتمادا على أطراف إقليمية ودولية قد يكون نفسها أقصر مما يتوقع البعض، بينما تملك القاهرة أدوات غير متوافرة لغيرها.
أما على الصعيد المصري فإن عدم الرد على بيان الحرية والتغيير برفض المبادرة المصرية، علاوة على أنه يرقى إلى أداء الدولة المصرية التاريخي بعدم الانجرار إلى مساحات من الجدل السلبي المتغير بطبيعته، وتغليب الاستراتيجي في علاقات الدولتين، فإنه في تقديري يحتاج أيضا إلى قدر من التعديل ليس بالهين على مستويين، الأول المستوى القصير، في ثلاث اتجاهات، الأول الدخول في تفاوض بشأن مسألة محددات توسيع قاعدة المشاركة في الاتفاق الإطاري، بهدف عدم إغراق القوى الديمقراطية سياسيا وضمان عملية تحول ديمقراطي حقيقي في السودان.
أما الاتجاه الثاني فهو فتح حوار مع المكون المدني السوداني بشأن قضايا العلاقات الثنائية وقضايا الأمن الإقليمي بما يضمن لمصر التزامات محددة بهذا الشأن، وبالتالي بناء جسور الثقة مع المكون المدني السوداني ومحاولة تخطي مرحلة الهواجس المتبادلة، والتي لها طابع تاريخي.
أما التوجه الثاني، فهو إعطاء فرص للسفير المصري إلى جانب القنصل أن يكون أحد واجهات التفاعل المؤثرة مع القوى السياسية السودانية في هذه المرحلة، وهو الأمر الذي سيعطي إشارة لا تخطئها عين بشأن المتغيرات التي تجري في القاهرة ذاتها.
أما على المستوى المتوسط والبعيد المدى فإنه لا بديل عن استحداث القاهرة لمنصات موازية لمنصات التفاعل الرسمية الراهنة مع السودان، وتوسيعها في الأطر الحزبية والأكاديمية بهدف تأسيس إدراك متبادل أكثر إيجابية وأكثر قدرة على بناء مصالح متفق عليها، وسط تحديات مرتبطة بمستقبل التنافس الدولي على القارة الإفريقية، وتداعياته على كل من إقليمي حوض النيل والبحر الأحمر.
وفي الأخير لعلي أهمس في أذن بيرتس فولكر بقولي إنه لا داعي لأن يكون أحد الآليات الأمريكية في فصل السودان عن مصر طبقا لخطة مادلين أولبرايت، فإن موقعه يتطلب حيادا بين دول الإقليم لضمان الاستقرار المطلوب للأمن الدولي ولحياة البشر في وادي النيل، وأنه إذا كان لديه موقف من الأداء السياسي المصري الرسمي في السودان، يجب أن يعرف أن مصر دولة كبيرة وتاريخية ولا يمكن تحجيمها في هذا النطاق فقط