تحت الماء الإسلاميون: (تَخْتَة الخصومة الفاجرة) بقلم : أماني إيلا
تحت الماء
الإسلاميون: (تَخْتَة الخصومة الفاجرة)
بقلم : أماني إيلا
من الثابت أن أحد أهم عوامل النجاح في استراتيجيات التخطيط للمواجهات في الحروب والسياسة وحتى في الرياضة هو إجادة معرفة العدو أو الخصم أو المنافس وحسن تقدير وتقييم قدراته الحقيقية دون تبخيس وتسفيه ودون تضخيم أو تعظيم ورصد نقاط قوته وضعفه بكل حيادية وموضوعية وتجرد علمي، والعامل الآخر من عوامل النجاح الذي لا يقل أهمية عن الأول هو معرفة مقدراتنا الذاتية بالتأكيد.
ولعل من أبرز مظاهر البؤس في الشأن السياسي السوداني هو الانعدام التام لثقافة (قبول الآخر) و(احترام المخالف) و(تقدير المنافس) و(إحسان الظن بالمختلف)، ومظهر ذلك هو الظن الكذوب عند كل طرف في ساحتنا بأنه الأقوى والأفضل والأطهر، ولا تثريب إن توقف الظن عند ذلك، بل يتعداه للظن بأن (الآخر) ممن خالفهم بموقفه أو اختلف عنهم في سيره وطريقه، وإن كانوا من ذات طينتهم الفكرية، إنما هو جاهل أو خائن أو لص سارق أو قاتل ومجرم ويستبيح بذلك رميه بكل فظائع الشتائم والسباب. ولنسند هذا القول بالقرائن والوقائع فسنأخذ مثالاً حاضراً في ساحتنا اليوم هم ما يسمى بـ(الإسلاميين)، وسأتبع هذا المقال بمقال ومثال آخر هو (الشيوعيون السودانيون).
وربما ظن بعض ذوي الهوى الأيديولوجي أو السياسي أنني هنا بصدد الهجوم على الإسلاميين وسبهم وشتمهم كما يفعل خصومهم بوعي وحق وبغير ذلك، أو بصدد الدفاع عنهم ومدحهم والترويج لهم كما يفعل من ينتسبون لهم بوعي وحق أو بغير ذلك، ولعمري كم أعمت عصبيات الانتماء للكيانات الفكرية والسياسية البصائر والعقول عن إدراك الحقائق حتى أضحى منسوبوها يحركهم هوى النفس وحظوظها الضيقة أكثر من رجاحة العقل والموضوعية والعدل وشهادة الحق ولو على النفس وعلى ذوي القربى، ولعمري كم أضاعت خطابات الكراهية المعلبة للآخر بتصنيفات الانتماءات الفكرية السياسية مصالح البلاد والعباد العليا وجرت على البلاد الخيبات المتتالية، التي ليس آخرها ما نعيشه اليوم.
(الإسلاميون)، المسمى واحد والمعاني في أذهان مكونات ساحتنا الفكرية والسياسية تختلف باختلاف مواقع وهوى المتحدث والمستمع، فالثابت لغةً وعقلاً ومنطقاً أن (الإسلاميون) تعادل في معناها العام اختصاراً (الأفراد والجماعات ذوي المرجعيات الإسلامية في إدارة الحياة الخاصة وفي إدارة الشأن العام)، وبهذا التعريف العام فإن غالب مكونات الساحة الفكرية والسياسية والمجتمعية بالسودان يمكن إدراجها تحت مسمى (الإسلاميين) ويشمل ذلك أحزاب سياسية وجماعات دينية كثيرة بنت فكرها على قاعدة شمولية الإسلام وقدرته على إدارة الشأن العام للدولة والمجتمع واتخذت ذلك برنامجاً سياسياً تبشر به وتسعى لتطبيقه وهم من يُطلق عليهم (جماعات الإسلام السياسي)، يضاف إليهم الأحزاب والجماعات الطائفية والطرق الصوفية وجماعات الدعوة والتبليغ والجهاد المتعددة، ومن الخطأ الجسيم الظن أن الإسلاميين (سواء) وأنهم (طينة واحدة)، حيث أن بينهم خلافات تتجاوز شدتها شدة خلافاتهم مع رافضي مرجعية الإسلام في الحياة العامة جملةً وتفصيلاً، لذا فإن محاولات أحزاب اليسار العلماني جعل الإسلاميين جميعهم (ملة واحدة) هو من الخبث السياسي المضر جداً بالساحة السياسية، بل بالأحزاب اليسارية نفسها حيث يثبت ذلك أن العدو عندهم ليس (أجسام) الإسلاميين وكياناتهم، بل العدو هو (مرجعيتهم) التي هي الإسلام مهما حاولوا التنصل عن ذلك بالمبررات الجوفاء.
وإن افترضنا أن الواقع السياسي ومصطلحاته حصرت هذا المسمى (الإسلاميين) على الجماعة السياسية التي تغيرت مسميات أجسامها من جبهة الدستور الإسلامي ثم الاتجاه الإسلامي والجبهة الإسلامية وأخيراً بالحركة الإسلامية الرافد الأساسي للحزب الحاكم المنحل (المؤتمر الوطني)، فإن من ينكر حجم شعبية وقواعد هذه الجماعة وقدراتها البشرية من الكفاءات المختلفة ومقدراتها التنظيمية والإدارية وقوتها الاقتصادية، بل والقتالية، وكذلك أدوارها التاريخية المشهودة في كل مراحل التاريخ السياسي وثوراته المتعددة، وما قدمته خلال تجربتها السياسية خلال الثلاثين سنة السابقة، إنما يهدم بيده أحد أهم عوامل النجاح في التخطيط لمنافسة أو منازلة أو مجابهة أو حتى (دوس) هذه الجماعة.
والتاريخ يثبت أن هذه الجماعة ظلت منذ ما قبل الاستقلال تتعرض لحملات الشيطنة والتخوين والتشويه المنظمة والمجحفة وبث خطاب الكراهية تجاهها من قبل مخالفيها من اليسار العلماني تحديداً، وقد كان لذلك آثار مدمرة تمثلت في حالات الاحتقان الدائمة بالساحة السياسية وصرف الجهود للمكايدات السياسية بدل النهضة والتنمية، فحين حارب الإسلاميون نظام عبود بقياداتهم المدنية (جعفر شيخ إدريس) وبكوادرهم العسكرية (الرشيد الطاهر بكر) وقاد زعيمهم (الترابي) ثوار أكتوبر 64، وفور نجاح الثورة تم شن الحملة عليهم بوصفهم بأنهم (القوى الرجعية المتخلفة)، وفي ثورة أبريل 85 ضد النميري تكرر ذات السيناريو بعد مشاركتهم الفاعلة المثبتة في نجاح الثورة ووجود غالب قادتها في سجون نظام النميري حينها، حيث تم وصفهم بأنهم (سدنة مايو) و(تجار الدين)، بل تجاوز ذلك ضربهم وحصب مؤتمراتهم بالحجارة ومنع قيامها، إلا أن الإسلاميين في كل الثورتين المذكورتين أظهروا ثباتاً وقوةً وتنظيماً وقدراتٍ تجاوزوا بها هذا الكيد السياسي وحققوا انتصارات في الانتخابات بحصولهم على مقاعد كثيرة بالبرلمانين الديموقراطيين في حين لم تحظَ تيارات اليسار العلماني المختلفة مجتمعة سوى بمقاعد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة في تلك التجربتين الديموقراطيتين.
ما يحدث اليوم يعيد للأذهان ما ذكرته أعلاه، فها هي ذات الفصائل السياسية تكرر ذات أخطاء الماضي بغباء منقطع النظير، حيث يحاولون إظهار الإسلاميين كـ(ملة فاسدة واحدة)، فيعادونهم جميعهم، ويبثون ضدهم خطاب الكراهية الفاجر في الخصومة، ويلبسونهم جميعهم وصمة مسمى (الكيزان) ويتوعدونهم بالاستئصال والإقصاء ومنع الحقوق المدنية عنهم ويهددونهم بـ(أي كوز ندوسوا دوس) ويمارسون ضدهم كل أنواع التعسف والظلم القانوني والفصل عن العمل ومصادرة الأملاك، وهم بذلك يمارسون سوء تقدير حجم وأدوار وقدرات (جموع) الإسلاميين، ويثبتون بذلك أننا لا زلنا نفتقر لثقافة قبول الآخر واحترام الرأي المخالف وصاحبه، ومما ينذر بذات العواقب الوخيمة التي نتجت عن مثل هذه الممارسات في الماضي، والتي أعاقت تحقيق أهداف الثورات السابقة وأعاقت الاستقرار اللازم للتنمية والنهضة.
البلاد اليوم، وفي هذه الأوضاع المحتقنة و لآيلة للانفجار، بحاجة ماسة وتفتقر لقائد حقيقي يُعلي في نفوس بين المكونات السياسية روح الوفاق واحترام الآخر وسعة الصدر وتحمل الخلافات وإدارتها بصبر وحكمة وجلد، وأن يشمل ذلك الجميع دون استثناء، وإن لم يحدث ذلك سراعاً فلن تأمن البلاد مصائر ذات تجارب الماضي المخجلة، وسنظل ندور في حلقة الضياع المفرغة.
*صحيفة اليوم التالي الخميس ٢١أكتوبر٢٠٢١م*