ضياء الدين بلال يكتب في (العين الثالثة).. نحن و(الكلب)..!
-١-
ما حَدثَ بتونس هو انهيارٌ لآخر الديمقراطيَّات التي أنتجها الربيعُ العربي.
هذه حقيقةٌ لا تحتمل الجدال، ما فعله قيس السعيد، الرئيسُ نصفُ الشرفيِّ، هو انقلابٌ كاملُ الأركان.
انتزاعُ كل السُّلطات ووضعها في يدِ شخصٍ واحد، وحمايةُ تلك القرارات بالقوةِ العسكريَّة، لا يُسمى سوى انقلاب.
كثيرون كانوا يرون في تونس تجربةً ديمقراطية، مُحصّنةً بالوعي وثقافة المجتمع ومستوى التعليم، وإيمان الشعب وقَسَم الجيش..!
-٢-
كثيرون يربطون بين مستوى الوعي السياسي وجودةِ التعليمِ في مستوياته الثلاثة؛ إذ تُعتبر تونس حسب تقرير المنتدى الاقتصادي العالميِّ في دافوس 2017م، من الدول ذات الجودة التعليمية العالية.
كان الظنُّ أن سلميَّة التغيير ومستوى الوعي السياسي والولاء الوطني، وضع تونسَ الثورةَ في مقامٍ رفيع، تقاصرت عن بلوغه دولُ الربيعِ العربي، بين فوضى وضياع.
-٣-
لكن ماذا حدث؟!
عقبَ الثورةِ التونسيةِ اشتدَّ الصراعُ بين العلمانيين والإسلاميين حول قضايا جدليةٍ أيديولوجيةٍ غير مُنتجة ولا مُثمرة.
أهملوا الاقتصادَ وتناسوا قضايا المواطنين من معاشٍ وخدماتٍ، ضاقَ الحال وصَعُب العيش الكريم، وتدهورت الخدمات، حتى تعالت بعض الأصواتِ تُنادي بعودة بن علي..!
-٤-
أكبرُ مُتغيِّر في الانتخابات التونسية التي جاءت بقيس سعيد، صعود النفوذ الانتخابي لشباب وسائل التواصل الاجتماعي، مَن سجَّلوا انحيازهم الكاسح لقيس سعيد، وتركوا لمنافسه نبيل القروي، كبارَ السَن..!
-٥-
ثبت الآن:
الديمقراطيَّة الليبرالية، غير قادرةٍ على النمو والازدهار بصورة طبيعية في مُجتمعات الفقر والعوز.
الديمقراطية الليبرالية، تحتاج لمقوماتٍ وظروفٍ اقتصادية وكياناتٍ سياسية تؤمنُ بها من حيث المبدأ، وتطبقها في كممارسة، ويؤمنُ بها الشعب كعقيدة.
نعم -كما قال عبد العزيز حسين الصاوي- لا ديمقراطيةَ بلا ديمقراطيين، ولا ديمقراطيةَ بلا ثقافةٍ ديمقراطيةٍ راسخةٍ في المجتمع.
ولا ديمقراطيةَ بلا خبزٍ ودواءٍ وتعليمٍ وعيشٍ كريمٍ..!
-٦-
فشلت الديمقراطيَّة في تونس، لأنها عجزت عن مخاطبةِ احتياجاتِ المجتمعِ وتلبية متطلباته الحياتيَّة الاقتصاديَّة والخدميَّة.
لم يشعلِ البوعزيزي النارَ في نفسه، احتجاجاً على عدم وجود حرية التعبير.
فعل ذلك لانعدامِ الحياةِ الكريمةِ التي توفر له الرزقَ وتصون كرامتَه من التسوُّل.
لم يكن المواطنُ التونسي، أحمد الحفناوي، ينتظرِ تلك اللحظة التاريخيَّة التي تمنحه: الحريةَ مُقابلَ لقمةِ العيشِ الكريم..!
-٧-
وجد الشيخُ راشدُ الغنوشي نفسه، مع قلةٍ من مُناصريه، يقف أمام بوابةِ البرلمان المغلقةِ والمحروسةِ بالجيش.
أطلق نداءً حزيناً للشعب، ليهبَّ لحماية الديمقراطية، فلم يجد أنينه الحزين أذناً صاغيةً ولا مُستجيباً.
ربما أدركَ الشيخ الغنوشي، أن الحرية وحدها لا تحمي الأنظمة من السقوط، ولا تدفعُ الشعوب للتضحية بأرواحها.
الدستورُ وحده لا يوفرُ الحمايةَ للحكومات الديمقراطيَّة من المغامرات الانقلابيَّة.
-٨-
ثبتَ بالتجاربِ العمليةِ أن الحريةَ هي (قيمةٌ مضافةٌ) لضروريات حياتيَّة، تسبِقها في قائمة أولويات الشعوب.
حينما أطلقَ الشريفُ زينُ العابدين نعيَه الأخير للديمقراطية الثالثة في السودان، وقال: (إذا شالها كلب ما في زول بقول ليه جرْ) كان يدركُ تلكَ الحقيقة.
التجاربُ الديمقراطيَّة الفاشلةُ في إدارة شؤونِ الدولة وتحسينُ أوضاع مواطنيها، هي التي تفتح الباب أمام الانقلابيين وتغلقه في وجه دعاة الحريَّة.
-٩-
أسوأ ما فينا، عدمُ مقدرتِنا على الاستفادةِ من تجارب الآخرين، بل ما هو أشدُّ مضاضةً عجزُنا عن التعلُّم من أخطائنا.
لذا تجاربنا مُكرَّرة، وأخطاؤنا مُعادة، وتاريخنا دائري، نُلدغ من الجحر الواحد أكثر من مرتين، ونشتري المياه من حواري السُّقاة، ونبيع الدجاجَ مُقابل الريش.
– أخيراً –
الحقيقةُ التي يجب أن يعيها الجميع:
إذا استمرّ الوضعُ في السودان على ما هو عليه، من بؤسٍ وفشلٍ في إدارة الدولة ومعاش الناس، سيأتي (كلبُ) الشريف زين العابدين مرةً أخرى، دون أن يجد من يقول له (جَرْ)..!