إنَّ من أشق و أرهق الأفعال إلى النفس أن تتوخى ( الاعتدال ) و أنت تتحدث عن إنسان تُحِبه أو آخر تبغضه ، فإنك في الحالتين ترجو ( الله ) أن يعصمك من ( تَجاوُزِ الحد ) و أنت تُقبل على من تُحِب ، و يعصِمُك من ( تَجاوُزِ الحد ) و أنت تَنْأى عمَّن تبغض .. و أنت تُقْبِلُ على من تُحب ، فإن ( الاعتدال ) لا يعني غمط الحق ، لكنه إظهار الحق بحق و حقيقة و استحقاق .. و هذا ما أجدني أكثر حرصاً عليه و أنا أكتب هذا المقال بعنوان .. ( جمال الوالي … النُّضَار … ) .. و النُّضَار هو الخالص من كل شائبةٍ و زِيف .. ذَهَبٌ نُضَارٌ ، و وجه نُضار ، و نفسٌ نُضار ، و ( جَمالٌ ) نُضار .. و ( جمالٌ ) نُضارٌ يعني ( الحُسنَ ) الخالص .. لكني أعني به هنا ، ( جمال بن محمد بن عبدالله الوالي ) الخالص .. الخالص من كل شَيْنٍ و دَرَنٍ و وهَن ، إلا ما يعتري ابن آدم من نقائصَ فُطِرَ عليها ، ذلك أن الكمال لله وحده ، و المعصوم رسولنا الكريم وحده .. و هكذا هوَ عندي .. و هكذا هو عند من عرفه و خالطه .. و عندما غُيِّب يوماً قَسْراً ، قلت إن ( جمال )حين توارى في تلك الغَيَابَة ، تبين للقاصي و الداني ، كم أن الرجل محبوبٌ و مُقِيمٌ في القلوب .. إنني منذ أن عرفته فهو ( جمال ) النبيل .. رفيق ، و رقيق ، و شفيق ، و أنيق ، و ذو وجهٍ طليق .. يجتهد في إنفاق ما يأتيه من مال ٍ، حتى تكاد تشفق عليه و تقول لسائله : إتق الله فيه .. و تجده يسبقك إلى المسرات ، و هو في الصدارة عند كل نازلة .. حتى وهو بعيد ، يسبقك بالسؤال ، و الإتصال ، و تفقُّد الأحوال ، و بذل النوال .. يعني في كل شأن هو .. أمام ٌ، و إمامٌ ، و مِقدام ، و قِدااام ..
نعم .. إني لأشهد أنه كان دائم الإنفاق ، سِراً و علانية .. إذا أقبل ، و طبعُه الإقبال ، فإنه كالسحابة الوطفاء المِدرارة ، يُعطي عطاء من تظن أنه قد آثرك بما لم يؤثرك به أحدٌ من قبل .. و كان لا يأتي هذا الصنيع عن حال من يجلس على خزائن من ( ذهبٍ ) و ( دولار ) ، كما يظن الكثيرون .. و لكنه .. و كما أعلم عنه ، فقد كان كثيراً ما يُمسي وهو خالي الوفاض ، إلا من يقينٍ راسخٍ بأن المال غادٍ و رائح ٌ، و يبقى من المال الأجرُ و الأحاديثُ و الذكر .. كان دائماً يقول لي : ( أنا ما بقدر أقول لي زول ما عندي و أنا عندي ) .. و أذكر أنه في لقاءٍ ( ببيت الضيافة ) ، ضم الرئيس الأسبق ( عمر البشير ) ، و جَمعٌ من المغتربين ، قال لهم ( البشير ) عندما أشار أحدهم ( لجمال ) : ( يا جماعه جمال ده ماغَنِي ، لكنه سخي ) .. وفعلاً .. تجده ( مَعْبَراً ) للمال و ليس (خازِناً ) .. فمايأخذه من هناك ينفقه هنا .. و ما يأخذه من ذاك يمنحه هذا .. و إن لم يكن يملك ، فإنه يستدين من أولئك لينفق على هؤلاء .. و تجده في ذلك وَرِعاً عفيفاً ، لايأخذ إلا بحق لينفق في حق .. و لعله طيلة الفترة التي قضاها رئيساً لمجلس إدارة ( بنك الثروة الحيوانية ) ، فقد دخله نظيفاً و خرج منه أنظف ، لم يتقاضى أتعاباً عن ذلك التكليف ، و لم يقترض من البنك مليماً و احداً ، و من حقه ذلك ، كما يفعل معظم رؤساء مجالس إدارات البنوك ، و من ساوره شكٌ في قولي فليذهب إلى البنك و ليسأل كما فعل البعض من قبل ، وهم يسارعون سؤالاً و نبشاً علَّهم يجدون مَذَمَةً يطيرون بها في الآفاق .. و على هذا فقِس ، إذ أنه في كل تعاملاته المالية يَتَحَرَّى الحلال ، و يَتَقي الشُّبُهات ..
كان يحرص في كل موسم حج على استئجار طائرة يحمل على متنها فوجاً من الحجيج ، تجد بينهم ، القريب إليه و البعيد منه ، الميسور و الفقير ، ومن لم يكن يتوقع أن يناديه المُنادي بهذه السرعه و هذا اليسر .. و تجده يسهر على راحتهم و ينشط في خدمتهم و يحمل هم كل واحدٍ منهم .. و كنت مرة واحداً من هؤلاء .. وترافقنا ونحن نؤدي مناسك هذه الشعيرة ، وفي طريق عودتنا من ( عرفات ) راجِلين إلى ( مُزدلِفة ) ، ثمَّ إلى ( مِنى ) ، و عند رمي ( الجمرات ) ، و ( الطواف ) ، كنت أجده دائماً أمامي مُنطَلِقاً لا يلوى على شيء ، و لم تفلح معه كل محاولاتي في مُحاذاته ، مما جعلني أُحَدِّث نفسي بأن ( جمالاً ) يشُق عليك أن تسبقه في كل حالٍ و مآل و مجال ، إذ أنه سابق في الخيرات ، و بالخيرات نحو الخيرات .. و كنت أُغْبِطُه .. و الغِبطَة نقيض الحسد .. الحسد أن تتمنى زوال النعمة من غيرك .. و الغبطة أن تتمنى أن يكون لك مثل ما لأخيك ، ولا يزول عنه خيره بل يزيد ..
ما أصاب الداء حبيباً لديه ، أو وقف ببابه ذو عِلَةٍ ، أو تناهى إليه خبرُ مريضٍ إلا و أسرع إليه ، و كان الطبيب المؤازرا ، قبل الطبيب المُدَاويَّا .. و إبان فترة عملي ( في مصر ) ، و لفترة تقارب الأربعة أعوام ، كان لا يمر بي وقت إلا و يزفُّ لي مريضاً أو أكثر ، و كان يتابع مسيرة علاجهم صباحاً و عَشِية ، فأتعب أنا و لا يتعب هو ، و يناقشني بدرايةٍ في طبيعة العِلة و ما يُناسبها من علاج و دواء ، و لعل ذلك يعود إلى كثرة متابعته لمثل هذه الحالات ، أو مما يتعلمه من حرمه الطبيب الإختصاصي دكتوره ( نعمه إبراهيم حسن النعيم ) ، و هي شقيقة الدكتوره ( كوثر إبراهيم ) حرم الأرباب ( صلاح أحمد إدريس ) .. و لقد شهدته عياناً ، و نحن في ( دبي ) عندما باغت الداء صديقنا ( عبدالعزيز برجاس ) ، فأسرع بنقله إلى مستشفى (سليمان الحبيب ) ، و رابعنا الوجيه ( أحمد القاسم ) ، سادِن ( الذهب ) و ( النفائس ) ، و رأيت ( جمال ) يلاحق الأطباء بالسؤال إشفاقاً ، حتى أنني كنت أشفق عليهما ، و عندما قرر الطبيب تنويمه ، و لأن في ذلك مخاطرة ، فقد كان يرجو الطبيب أن يتريث ريثما يفعل و يفعل ، إلا أن الطبيب لجأ إليَّ فأذنت له ، و بعدها غاب ( برجاس ) عن الدنيا ( ثلاثين يوماً ) حُسوما ، حتى ظننا أنه لن يعود إلى الحياة الدنيا بعد هذا الغياب الطويل ، و ظل ( جمال ) مُلازماً له ، ملازمة الود و العُشرة و المحبة التي انعقدت بينهما .. و في يومٍ زارنا أحد شباب ( المريخ ) وهو يعمل و يسكن في ( الشارقه ) ، و في المساء بلغ ( جمال ) أنه قد أُدخل ( مستشفى الشارقه ) ، لإجراء جراحه عاجله في القلب ، وهو مستشفى فخيم لا ينقصه شيئاً ، فما كان منه إلا أن وجه بنقله في تلك الليله ، إلى ( مستشفى سليمان الحبيب الخاص ) في ( دبي ) ، حيث يرقد ( برجاس ) ، و أرسل إسعافاً ، رافقه أخي ( صديق كوباني ) ، و جاء به ، على مقرُبةٍ من الفجر ، و أجريت له العمليه على أعجل ما يكون .. و هو دائماً في مثل هذه الحالات يجتهد و يتفانى في فعل و تقديم الأفضل و الأجدى و الأنفع ، مهما كلفه ذلك .. و ليس ذلك و قفاً على العلاج ، فقد شهدته و خبرته .. فهو يجود عليك بالأحب إلى نفسه ، و يمنحك مما يحب أن يقتني لنفسه ، و يُحب لك ما يحبه لنفسه و أكثر .. لا يَسْتَكثِرُ مالاً و لا يدَخِر وسعاً و لا وقتاً و لا يحجِب وُداً و مَعَزَةً .. و أنا واحدٌ من أولئك الذين غمرتهم هذه النفحات ، و هذه اللطائف ..
ورد عن الشيخ ( محي الدين بن عربي ) أنه قال : ( لن تبلغ من الدين شيئاً حتى توَقِّرَ جميع الخلائق ) .. و لقد رأيت من ( جمال ) توقيراً للناس لا يقدر عليه إلا أولو العزم ، ممن فاضت قلوبهم بالمحبة و الرضى و اليقين .. و هي محبة ، و رضى ، يتدفقان من قلبه فيغمران مَنْ حوله .. و لقد رأيت ذلك رأي العين .. إذ أنه لم يكن يضيق بأحدٍ و لم يكن يرُدُّ أحداً .. على كثرة من يُلاقي و على كثرة ما يطلُبُهُ مَنْ يُلاقي و على كثرة ما يُلاقي مِمَّن يُلاقي .. كنت أنا أجد في كل وقت أمام داره جمعاًمن أصحاب المآرب و الحاجات يتزاحمون بالمناكب ، حتى أن أحدهم كان يظُن أو يُرَوِّج لأن هذا ( مستشفى ) و ليس مسكناً ، فقلت له : ( لماذا تدعهم يتجمهرون أمام المنزل و فيهم و فيهم ، و قد ينالك منهم ما لايسر ) ، فقال لي : ( خليهم ، مافي حاجه بتحصل ) ، و هو يعرف جيداً أن بينهم و بينهم وبينهم .. و ذات مرة طلب منه أحدُهم أن يَكُف عطاءه عن ( فلان ) ، فهو علاوةً على أنه ميسور الحال ، فهو أيضاً ممن يسيئون التصرف ، فكان رده أنه يعلم ذلك ، و تمادى في وصله له و جزيل صِلاته .. و مرة حكى لي ضاحكاً أن أحد أقربائه قال له : ( إنت كده بتْكَمِل قروشك ، طيب مادام مُصِر ماتدي طوااالي ، مَطْوِح الواحد شويه ، تعالي بكره ، أنا مسافر ، أو أي عذر ، عشان الواحد ما ياخد بالساااهل كده ) .. و ضحِكنا .. و بالطبع لم يفعل ذلك لأنه لم يكن بطبعه كذلك .. و أنا أعلم جيداً أنه يُعطي أناساً هم أفضل حالاً منه و أغنى .. و يعطي كثيراً و غزيراً و بلا انقطاع ، حتى أنني مرة قلت له ، بدلاً من أن تهَب و احداً كل هذا فاجعله لإثنين أو ثلاثة ، فما استجاب و أعارني أُذُناً صماء .. لم يكن يطيع أحداً أبداً .. في منْ يُعطي و كم يُعطي و كيف يُعطي و أين يُعطي ..
و ما رأيت أحداً مُبَرَءاً من شُحِ النفسِ مثل ( جمال ) .. و هوَ عندما يُسأل لا يقول ( لا ) و في الدنيِّةِ لا تسمع منه غير ( لا ) .. ذلك أنه قد جُبِل على أن يرى القبيح قبيحاً و الجميل جميلاً .. و أنا أخالط الناس كثيراً ، فما أن تأتي سيرة ( جمال ) ، حتى تجد من يقول .. عالجني أو عالج ( فُلان ) .. أقال عثرتي أو عثرة ( فُلان ) برَني أو برَ ( فُلان ) .. شاركنا في كذا .. و جاءنا في كذا .. و اتصل بنا في كذا .. نعم .. و أذكر هنا ، و أنا بمعيته بفندق ( قراند حياة دبي ) ، حيث إنضم إلينا الطبيب البارع ( حاتم أبوشورة ) و صادف أن كان ( بدبي ) شقيقه الودود ( حيدر أبوشورة ) ، و الذي دعانا لتناول العشاء على ضيافته بالفندق ذاته ، و قبل أن يحين الموعد ، أخبرني ( حيدر ) أن صديقه ( فُلان ) سيأتي بمعيته ، و هو رجل أعمال شاب يقيم ( بدبي ) و قال لي : ( عارف ياحسن صديقي ده لما عرف أني عازمكم و معاكم ( جمال ) ، أصرَّ أنو يجي معاي ، و أخبرني أن والده قد جمعه مرة هوَ و إخوانه ، و هم من أسرة ( أم درمانية عريقه ) ، و قال لهم في أي مكان تلاقوا ( جمال الوالي ) ده ، تكرموه غاية الإكرام ، فقد أكرمني يوماً ) .. و كثيرون رأيته ينفَحُهُم و يتلطف بهم .. و كثيرون أسَّروا لي بما قدمه لهم ، و تلك المآذق التي أخرجهم منها ، حتى أني كثيراً ما أتساءل : كيف أُتيح لهذا الرجل فعل كل هذا ، لكل هؤلاء ، بكل تلك الشهامة و المروءة الشماء .. و لكن .. ( على قدر أهل العزم تأتي العزائم و على قدر الكرام تأتي المكارم ) ..
لا ينقاد أو يمضي و هو مغمض العينين .. أبداً ، أبداً .. له موقف ، و له رأي ، و له رؤية .. إذا حاججته فإنه يحاجَّك الحُجة بالحجة ، و يصادم إذا اقتضى الأمر مصادمة و منازلةً و مُناجزةً .. و لكنه في كل الأحوال ، يفعل ذلك إحقاقا للحق ، الذي يرى أنه بالإتباع أنفع و أجدر و أحق ، و ليس إنتصاراً للنفس أو ميلاً مع الهوى الأخرق .. و أنا هنا أتحدث بما شهدت و رأيت .. لقد أمسك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بيد رجل في المسجد ، وقال للحاضرين: ( من منكم يشهد لهذا الرجل ؟ ) «أي يضمنه» ، فقام رجل وقال : ( أشهد بأنه رجل صالح ) ، ثم جلس ، فأوقفه عمر وقال له: ( هل أنت جاره الأقرب؟ ) فقال: ( لا ) ، فسأله عمر : ( هل رافقته في سفر؟ ) ، فقال : ( لا ) ، فسأله عمر : ( هل عاملته بالدرهم والدينار؟ ) ، فقال: ( لا )، فإذا بأمير المؤمنين يقول له: ( اجلس أيها الرجل الطيب فإنك لا تعرفه ) .. ثم قال عمر للرجل بعد ما رد شهادته: ( لعلك رأيته يتمتم بقراءة القرآن في المسجد ، فغرتك هذه التلاوة ، فظننت أنه رجل صالح! ) .. لقد عملنا معاً في مكان واحد .. و ضربنا في الأرض معاً ، شمالاً و جنوباً و شرقاً .. و ترافقنا بالساعات ، و نحن نرتاد مراتع الأفراح ، و نغشى مضارب الأتراح .. فوقفت على طرفٍ مما رويت .. و وقفت على تلك المحبه التى كان يبذلها له مَنْ هم أمامه و وراءه ، و عن اليمين و عن الشمال .. و حتى عندما اقتحم مجالاً لا يُجْمِعُ أهلُهُ على أحد ، و لهم رأي في كل من يتقدمهم ، فقد كان الأمر جدّ مختلف بالنسبة ( لجمال ) ، و هو يتسنم رئاسة ( نادي المريخ ) ، و أنت تستمع إلى كثيرين ، و ليس كل ، و هم يتغنون .. ( لن نُوالي غير الوالي ) .. ( جمال الوالي رئيس طوالي ) .. و في منحىً آخرٍ طريف .. لقد ذهبت برفقته يوماً لتقديم واجب العزاء في شقيقة ( أبراهومة الصغير ) ، بحي ( ود أورو ) ، و صادفنا ( الهادي نصرالدين ) و هو أحد أشهر ظُرفاء ( أم درمان ) في مكان العزاء ، و كان يحمل ( لجمال ) محبة خاصة ، كنت شاهداً على كثير من مظاهرها ، وترافقنا معه ، لزيارة أحد الإخوة جوار ( مسجد الإمام عبدالرحمن ) ، في طريقنا إلى ( الثورة ) ، و قد دعانا بإلحاح للغداء فاعتذرنا ، فقال : ( طيب أقعد إنت يا الهادي ) ، فأجابه : ( يازول إنت ما نصيح ، غَدَا شنو البقعد أحْرِسو ، وأخَلِي ليهو جمال الوالي ) !! محبة لا تُشْترى .. و لا تُستلَف .. و لا تُدَّعى .. و لا تُصطَنع .. و لا تأتي مصادفة .. و لا يظُننَّ أحدٌ أنها محبة مردها إلى إنفاق المال و حده .. لا ، و كلا .. إن مَرَدَّها إلى البذل بحب .. و مباشرة الناس بحب .. فيكافِئك الناس حباً بحب .. و يَرُدون لك الحبَ أضعافاً مضاعفةً من الحب .. فتجد نفسك سابحاً في بُحيرةٍ من الحب .. و تجد الحبَ يملأ قلبَك فتستحيل بحيرةً عذبةً تعيش كلُ سوابِحِها في حُبٍ و حُبٍ و حُب ..
و كما أن ( جمال ) محل حفاوة الآخرين و ثنائهم ، فهو لا يفتأ يثني بكل ما أوتي من مشاعر نابضة بالوفاء ، يثني بكل الامتنان ، و بكل الغبطة ، و بكل عبارات المحبة على كل من أهدى إليه جميلاً ، و يُعظِّمهُ و يحدِّث به و يزهو .. و أنا كثيراً ما حدَثني ، عن ذلك الذي بسط له من المودة ما يُثلِجُ الصدرَ ، و ذلك الذي آزره ، و ذلك الذي أعطاه مما يحب و يضنُّ به الآخرون .. و كما أن هناك أُناسٌ تصادفهم في الحياة يَسْتَصْغِرون العظيمَ الذي الذي يُساق إليهم ، فإن جمال يعْظُم في عينيه الصغير الذي الذي تقدمه له على استحياء ، بل و يفرح به و يُذِيعُه و يُباهي ، و لسان حاله يقول .. إن قليلَكَ لا يُقال له قليلٌ .. و لكنه كثيرٌ كثير ..
و عَهِدتُ ( جمالاً ) مُقْبِلاً على أطايب الحياة و رونقها .. يُقبل على الأجمل .. و يختار لنفسه الأجمل .. و يَهَبُ الأنضر و الأجمل .. و يدعوك إلى حيث الأجمل .. و معه تعرف من الأصحاب الأجمل .. و يتوخى فيما يفعل و يقول الأجمل .. و يطربه ( كمال ترباس ) ، بغنائه و تطريبه الأجمل .. ( ما تهتموا للأيام و ما تهتموا أصلو الناس حياتا ظروف تتحكم تغير كل خط مألوف و ما تهتموا للأيام مصير الزول حياتو ياما فيها يشوف و في دنيانا بنلاقي الفرح و الخوف و ما تهتموا للأيام ) .. و التِماس الجمال .. و إشاعة المحبة من صميم خٌلق المتصوفة .. و ( جمالٌ ) مطبوع على وَلَهٍ بالمتصوفة و منجذب إليهم .. كان قريباً من الشيخ ( عبدالرحيم البرعي ) .. و كان قريباً من الشيخ الدكتور ( الجيلي عبدالمحمود الحفيان ) .. و كان قريباً من كثير من أئمة التصوف و شيوخه و أوتاده .. فتعَلَم منهم و ارتوي من حياضهم.. و المتصوفة يَقبَلون الناس بعِلاتِهم و يُقبِلون على الناس على عِلاتهِم .. و لا يضيقون أو يتأففون من عِلاتِهم .. و يُحَبِبُون إليهم ( الطريق ) و يُجَمِّلونه لهم و يُذَكِرونهم أنَّ .. ( الأرض أرض الله و المَقَامُ واسعٌ و رب الدار كريم ) .. و ليس هناك أبلغ مما ذهب إليه شيخُنا ( محيي الدين بن عربي ) .. ( و أنا يا أهل الخير عَبدٌ مَحْضٌ لله ، لا أطلب التفوق على عباده ، بل إني أتمنى أن يكون العالم كله على قدم واحده في أعلى المراتب ، فلا ضيق في مراتبِ المعْرِفة و الكمال ) .. و كذلك فقد ثبت لي .. لا ضيق في نيل المعالي .. و لاضيق في اكتساب الخيرات .. و لا ضيق في تفريج الكُرُبات .. و لا ضيق في السعي بين الناس بالمودة و المسرات .. و العاقبة للصادقين المتقين السابقين بالقُرُبات ..
و ( جمال ) من قبل و من بعد.. تجده باراً بأهله و موصولاً بقرابته ، و هو ينتمي إلى دوحةٍ أنى ذهبت تجد لها فرعاً داني القطوف ، فمن ( الزيداب ) بنهر النيل ، إلى ( آل الأزرق ) بالقضارف ، و الذين هم أهل علمٍ و دين و كرم و نجدة ، و انتهاءً بالجزيرة ، هناك و هناك ، و هنا في ( فداسي ) ، حيث مسقط رأسه ، و مقام ( أمِّهِ ) و ( أبيه ) و ( فصِيلتهِ التي تؤوِيِهِ ) .. و أبوه الشيخ ( محمد عبدالله الوالي ) ، كان من قيادات المزارعين ، و قيادات الإتحاديين ، و منارات الوجَهَاء ، و نال عضوية الجمعية التاسيسية ، و هو عالِمٌ و شاعرٌ تَنْسِبُه إلى فحول الشعراء ، و دونكم هذه الأبيات من قصيدته التي نظمها ناعياً فيها إبنه الغريق ( الصادق ) .. ( أملٌ تبَدَّدَ فاستحال سرابا و منىً كَذَبْنَّ و كُنَّ قبل عِذابا ) و يمضي .. ( يا نيل قالوا إن ماءك نعمةٌ يَهَبُ الحياة سعادةً و شبابا يغشى اليباب فيستحيل مواتُه روضاً يرف أزاهراً و خِلابا ما بال مائك عَمَّ روضَ سعادتي فأحاله بعد الحياة يَبَابا يا نيل هل أدركت من غَيَّبْتَهُ و منعته الأنفاسَ و الأسبابا يا نيل هل أدركت موقع ”صادق” مِنا و كيف زَكَا صِباهُ و طابا يا نيل لو أدركت سرَ نُبُوغِه و ذكاءه المُتوَقِّد الوثابا ما كنت تجرؤ نِيِلُ أن تغتاله و تسير فوق رُفَاتِه مُنسابا و تخلِّف الآلام تَعْمُر رَبْعَنا و الحزن ينشر فوقه أثوابا لولا قليلٌ من تُقىً حصَنْتُهُ بحِمىً من الإيمان عزَّ جَنَابَا قد هبَّ يُلْهِمُني التصَبُّرَ و الرضا بقضاء ربي صابراً أوَّابا لهَلَكتُ حُزناً عند فقدي(صادقٍ ) أو عشت عُمري لا أحِيرُ جَوابا ) ..
و ( جمال ) تجده كثير الفخر ( بفداسي ) ، و ( الفدَّاسه ) .. و حقّ له أن يفخر و يزهو .. ففي هذه البلدة المعمورة التي تتوسط ( الحصاحيصا ) و ( مدني ) ، تجد من الأخيار و العلماء ما يُدهِشُك .. تجد فيها أساطين الطب ، و الهندسة ، و الفقه ، و الزراعة ، و الإعلام ، و علوم الفيزياء و الكيمياء و الطيران و الحيوان ، و فُصوص الحكمة ، و كل لغات الفرنجة و ألسنتهم .. و نحن نشاطره العزاء في رحيل والدته ، طَفِقتُ أُحدِّث من كان إلى جانبي عن عظمة هذه البلدة و أهلها ، فأشرت إلى جماعة من الناس كانوا على مقربة منا ، يجلسون في وقار و تواضع و تأدُّب ، و يرتدون أبسط الثياب ، و يَحْتذون أبسط الأنْعُل ، و منهم من يرشف كوباً من الشاي ، و آخر يصلح عمامته ، و من هو حافي القدمين ، حتى تحسبهم لم يغادروا ( فداسي ) يوماً ، و ما عرِفوا ( الخرطومَ ) و ( أمدرمانا) .. قلت له أُنْظُر .. هؤلاء كُلُهم من هُنا .. و هؤلاء جُلهم نوابغ و فطاحِلة و جهابِذة .. و كلهم مهوى أفئدتِهم مُرْضِعَتِهم الرؤوم ( فداسي ) .. هذا بروف ( فلان ) ، و هذا بروف ( فلان ) ، و هذا اللواء ( فلان ) ، و هذا بروف ( حسن الزين ) الخبير الإعلامي ، و قد درسني في الجامعة ، و هذا البروف ( مبارك المجذوب ) المتخصص في أمراض الدم ووزير التعليم العالي ، و هذا البروف الفريق شرطة ( صلاح المجذوب ) اختصاصي المخ و الأعصاب و المحاضر ( بجامعة الرباط ) و هذا المهندس البروف ( الشيخ المجذوب ) و هو زوج شقيقة ( جمال ) و هذا الباشمهندس ( آدم عبدالله ) كان نائباً لمحافظ ( مشروع الجزيرة ) و هو زوج شقيقة ( جمال ) ، و هذا البروف ( بابكر الدرديري ) أستاذ اللغه العربية و قد درسني ، و هذا الشيخ الدكتور ( العاقب حاج إدريس ) أستاذ الإعلام ، و هو من تعرفت عليه إبان فترة عملي معيداً ( بقسم الإعلام بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض ) ، و ذاك البروف ( نصرالدين محمد عبدالله الوالي ) مدير مستشفى الذرة ( مدني ) ، و هو شقيق ( جمال ) ، و هناك المهندس ( عبدالمحمود سليمان ) مدير سودانير ، و إلى جواره المهندس ( عمر يوسف ) مدير الإدارة الهندسية لمشروع الجزيرة ، و هو زوج شقيقة ( جمال )، و هذا البروفيسورات ( محي الدين المجذوب ) عميد عمداء كليات الطب ، و قد رُوِيَّ لي أن دكتور ( الأمين محمد عثمان ) طلب منه مرة ( cv ) لتقديمه لمنظمة عالمية فنفد ما بالفاكس من ورق قبل أن تَنْفَدَ سِيرَتُهُ ، و لعل ذاك هو المهندس ( عبدالله خوجلي ) عميد كلية الهندسة بجامعة الخرطوم ، و أيضاً المهندس البارع ( أحمد خوجلي ) ، و الذي سلَّم علَّي قبل قليل هو زميل دراستي في الجامعة العالِم الشاعر ( المغيرة ) بن العالِم الورع الفقيه الشيخ ( محمد رملي ) ، و الذي يجلس هناك هو ( محمد أحمد الجاك ) من أثرى الأثرياء في السودان ، و هو خال ( جمال ) ، و الذي أمامه ( سيف الوالي ) النافذ في الطيران المدني و هو شقيق ( جمال ) .. و هنا أكثر من عشرين من العُلماء الأفذاذ ، الذين نالوا الدرجات العليا من أرفع الجامعات الأمريكية و البريطانية و الفرنسية ، و لعلك لا تلمس فيهم غُروراً و لا عُلُوَّاً و لا استكبارا ، ولا يتَشَدَّقون و لا يُقَهْقِهون و لا يَتَفَيْهَقُون ، و لا تصُدُر عنهم ( Yes) أو ( No ) إدعاءً و تنَطُّعاً .. و إذا انتفضوا و خرجوا سِراعاً و تِباعاً ، فتأكد أن وُجهَتهم ( المسجد ) ، أو عائدين إلى أكنانِهم و أشغالِهِم ..
في هذه المنابت الطيبة نشأ ( جمال ) ، فأخذ من طَيِّبِها و طِيبَتِها و طِيْبِها و أطايِبها و طُيُوبِها ، و كل مشتقات ( طاب يطيب ) .. و المَنْبَتُ الحسن يورث أحسن الخصال .. و لعل من محاسن الخصال أن تسعى في قضاء حوائج ( الخلائق ) من الناس .. و قضاء حوائج ( الخلائق ) يكون ببذل الجهد و المال و إحسان ( العلائق ) .. و إحسان ( العلائق ) من أحب الأعمال إلى ( الخالق ) .. و ( جمال ) يسعى إلى مرضاة ( الخالق ) بالمداومة على العطاء .. و هو عطاءٌ .. مع نقاءٍ .. في صفاءٍ .. على حياءٍ .. بصدقٍ و وفاءٍ .. و إن عبادةَ اللهِ ، بالقيام على شئون خلقه ، و السعي في مصالحهم ، قد تكون أشق على النفس من الجهاد في سبيله ، و أرجى منفعة ، و أعظم ثواباً ، و أقصر الطرق إلى رحمة الله و ألطافه الخفيَّة و نِعمه السخيَّة .. و يبقي من حُسنِ المحاسن أن تَلهَج ألسنتُنا بما نرى .. من صنائع المعروف و صُنّاع المعروف و مَراقِي المعروف و ها أنذا أفعل .. أفعلُ ذلك اتساقاً مع قاعدةِ أن تقولَ لمن أحسن : ( أحسنت ، و أحسنت ) .. و هو خُلُق نبيل يلزم أن نتواصى به و نُشِيعُهُ .. و بمعنى آخر .. إذا أسديت معروفاً لأحدٍ فلا تَعْمَد إلى التغني به و الافتخار حتى لا تقع تحت طائلة الرياء .. و إذا أصابك معروفٌ من أحدٍ أو رأيت معروفاً ينالُ أحداً ، فلك أن تُحَدِّث به و تُذيعُهُ ، لا و يُندب ذلك حتى تُحَبِب الآخرين في جَميل الفِعال و الخِصال .. قال تعالى : ٣٩)وَ أَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ٤٠)وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ٤١)ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى ٤٢)وَ أَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى .. صدق الله العظيم .. و على الله قصد السبيل ..