(خواطر مهاجر ) .. رحلة العودة الى الوطن فبراير 2023 الحلقة الثانية
عدت الى مطار شارل ديجول بعد ان تجولت في انحاء باريس لمواصلة رحلتي الى القاهرة. اثناء انتظار الطائرة اطل احد ابناء جنوب السودان وحياني بحرارة وادرك انني لم اتعرف عليه حيث ذكرني بأيامنا في جامعة تورنتو. اسمه ماجوك و زوجته اسمها مونيكا ولهما ابن واحد. ذكر لي انه مسافر الي كينيا عن طريق القاهرة لزيارة اسرته هناك. لماجوك قصة طويلة ومثيرة ، فعلى الرغم من انه ولد في جنوب السودان الا انه لم يسبق له زيارة الشمال. حكى لي انهم فروا من الحرب عندما كان طفلا وقتل اثنان من اشقائه في طريقهم الى كينيا. ماجوك احد افراد ما يسمى،في الصحافة الامريكية، بأطفال السودان الضائعون،
(lost boys of Sudan), وهو برنامج امريكي وثائقي كان مصدرا لعدة كتب وافلام. حزنت عندما ذكر لي انه طلق زوجته مونيكا وان ابنه يدرس في احدى الجامعات الامريكية. سألته مداعبا حول ما اذا كان سبب زيارته الى كينيا للحصول على زوجة، فكان رده الصادم ان تجربة زواجه من مونيكا جعلته يزهد في النساء مدى الحياة. طيبت خاطره وافترقنا.
بدأت وفود المسافرين عبر الخطوط المصرية تتوافد الى بوابة انتظار الطائرة. جلست هناك وفي دواخلي رهبة وتوجس حيث ان طائرة الخطوط المصرية التي تسافر على ذات هذا الخط اختفت في البحر المتوسط ومات كل ركابها قبل ثمانية اعوام. وقد اعقب ذلك الحادث تحقيقات افضت الى اهمال من الجانب المصري في صيانة الطائرة.
مخاوفي من السفر على الخطوط المصرية تبددت تماما عندما دخلنا الطائرة النظيفة ذات المقاعد الواسعة، والمضيفات المصريات يوزعن الابتسامات على الركاب بكل ادب ووقار وذلك على عكس رحلة لي بذات الخطوط بين مصر والسودان بطائرة متهالكة ومرقعة المقاعد مع تعامل بائس من المضيفات تجاه الركاب.
جلست بجانب ام مصرية وابنتها وقد شدني الحوار الدائر بينهما حيث ان الأم توصي ابنتها بالكف عن التحدث بالفرنسية حال الوصول الى مصر ، والبنت، التي تلون شعرها بشتى الالوان وتعلق زماما في شفتها السفلى، ترد على امها بالايجاب بلهجةً مصرية مكسرة مخلوطة بلغة فرنسية باريسية. يعكس هذا الحوار التحديات الكبيرة التي تواجهها العائلات المهاجرة في دول الغرب في السعي الحثيث نحو الحفاظ على الهوية واللغة. وفي الجانب الآخر من المقعد يجلس بجانبي رجل ابيض ستيني ذكر لي انه امريكي ويرغب في زيارة الاهرامات ومدينة اسوان. احسست ان له رغبة في الحديث. بدأ بالرياضة وذكر انه يعشق اللاعب محمد صلاح المصري وامتد النقاش ليشمل كأس العالم وامبابي وميسي. وعندما افرغنا ما في جعبتنا من حديث حول الرياضة دلف بي الى عالم الساسة وبدأ يكيل الشتائم على بوتن وغزوه لأوكرانيا. لقد اندهشت لسعة ثقافة هذا الامريكي حتى ظننت انه جاسوسا عندما بدأ في تحليل الشأن السوداني وذكر حمدوك والدعم السريع وبرهان واسماء اخرى لم اسمع بها. ظل هذا الامريكي يتحدث معي بحماس حتي اثناء الوجبات. ان من عاداتي في السفر بالطائرات ان اظل صامتا مسترخيا، الا ان هذا الامريكي جرجرني للحديث المتواصل معه حتي لحظة هبوط الطائرة في مطار القاهرة الدولي بعد اربع ساعات ونصف من الطيران.
زيارتي لمصر تأتي بعد فترة غياب امتدت لأكثر من ثلاثين عاما. لي فيها ذكريات صبا وشباب تحدثت عنها في حلقات سابقة. اذكر اننا عندما نلتقي بسوداني ذا عمامة وجلباب و ملفحة نسارع لتحيته بالأحضان وكأننا نحضن سوداننا الحبيب الذي غبنا عنه لعدة اشهر فقط؛ حتى ان احد هؤلاء السودانيين اقسم ان نتناول معه طعام العشاء واكرمنا بإعطائنا مالا عندما علم اننا طلاب. ذكرت هذه القصة لأحد السودانيين المقيمين بالقاهرة وذكر لي ان بالقاهرة الآن ملايين السودانيين وان موقفا مثل هذا يستحيل ان يحدث في هذا الزمان.
دخلنا القاهرة عبر المطار الجديد الذي لا يقل جودة عن المطارات في شمال امريكا، وفي ذاكرتي مطار القاهرة المتهالك قبل اكثر من ثلاثين عاما. تعتبر القاهرة احد الجبال الشاهقة التي مررت بها في حياتي ولها وقع خاص في نفسي. تعجبني خفة دم المصريين واندفاعهم لمد يد العون بمقابل وغير مقابل و فكاهتهم الحاضرة دوما. اصطففنا لأخذ تأشيرة الدخول واذا بأحد المصريين ويصحبه ذلك الامريكي يخرجاني من ذلك الصف الطويل ليتم معاملتي معاملة خاصة للحصول على التأشيرة وقد ذكر لي الامريكي انه في طريقه الي اسوان. حمدت الله اننا لم نتبادل ارقام التلفونات حيث خشيت ان يكون جاسوسا يسعى الى تجنيدي ،فقد قرأت الكثير عن قصص المخابرات الامريكية غير الاخلاقية والتي تجند الجواسيس وتقوم بتصفيتهم بعد انتهاء مهمتهم.