ضياء الدين بلال يكتب: “خيبة الدَّولة!!”
-١-
(إذا ضاعت الهَيبَة لن تَستردّها القُوة).
جُملة جامعة ومانعة ومُحكمة، وضعها صديقنا العزيز الأستاذ الزبير نايل، على حائطه بالفيسبوك.
نعم، هنالك فرقٌ بين قوة الدولة ومقدرتها على البطش والرَّدع، والهَيبَة التي تمثل قوة معنوية وقائية مانعة للتجاوُز.
منذ سنواتٍ، تعرّضت هَيبَة الدَّولة للتجريح والتشويه والازدراء.
زاد الأمر وبالاً بتصاعُد الخطاب السياسي المناوئ لأجهزة الدولة الأمنية والشرطية والعسكرية.
هتافات الإساءة والازدراء للشرطة والجيش (معليش ما عندنا جيش.. وبوليس جرى)، أسهمت في تحطيم الرُّوح المعنوية .
افتقدت القيادات السياسية، الوعي والشجاعة في مُناهضة ذلك الخطاب التدميري.
بل بعض تلك القيادات، كانت ترقص وتُصفِّق لتلك الهتافات الملحنة، وتعتبرها من أدبيات الفعل المُعارض!
-٢-
صحيحٌ بعض منسوبي تلك الأجهزة، مارسوا عُنفاً باطشاً ضد المدنيين في الاحتجاجات وبعد التغيير.
مرد ذلك لسببين:
الأول: انقياد قيادات تلك الأجهزة للجهات السياسية الحريصة على مقاعدها السلطوية، بغض النظر عن الثمن.
الثاني: ضُعف التدريب والإمكانات في مُواجهة الاحتجاجات السلمية والعنيفة.
تلك الأسباب لا تُبرِّر خطاب الكراهية والعداء.
بل تفرض إجراء إصلاح مؤسسي وتدريبي شامل لتلك الأجهزة ومُحاسبة رادعة للقيادات، مع الاحتفاظ بهيبة المؤسسات وعدم الانتقاص من دورها.
-٣-
مُحاولة حسم ما يحدث من تفلتات وأحداث عُنف في الولايات، خاصةً في شرق السودان، عبر إظهار القوة العسكرية فقط، لن يجدي نفعاً ولن يثمر أمناً واستقراراً.
ذلك مطلوبٌ وضروريٌّ في حدود السيطرة على الأوضاع وإيقاف النزيف، ولكن الواجب التعامُل مع جذور الأزمات، في منشئها لا في أعراضها ومظهرها.
المعالجة على مستوى الجذور الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي توفر المواد الخام القابلة للاشتعال.
-٤-
قبل فترةٍ ليست بالقصيرة، أوردت الصحف خبر إصابة «4» أشخاص بطلقات نارية في جنوب دارفور.
هذا ليس هو الخبر.
الإصابة برصاص في دارفور، أمر طبيعي ومُعتاد، لا يختلف عن الإصابة بالملاريا أو الرمد الطبيعي.
وجه المُفارقة، أنّ الخبر لا يتحدّث عن معركة أو حادثة سطو أو اشتجار قبلي، الأربعة أُصيبوا في حفل استقبال شاعر مُختطف أُعيد إلى حُضن قبيلته!
كان يُمكن أن يُصاب واحدٌ أو اثنان، ولكن أربعة في مُناسبة فرح، فهو أمرٌ مُثيرٌ للتعجُّب ومُستحقٌ للتأمُّل والحسرة، وبين سطوره يكمن فيروس العُنف!
-٥-
في تلك البقعة من العالم، حتى الأفراح لا تسلم من الأذى، في تلك المناطق كل شيء له قيمة، الأرض والمياه والحيوانات، ما عدا الإنسان، فروحه لا تُساوي ثمن رصاصة طائشة في لحظات تعبير عن فرح أو غضب!
في هذه المنطقة من العالم، يفقد الإنسان تحت صفعات الطبيعة وتقلُّبات التاريخ ومكائد السياسيين، ثقته في كل شيء، القانون والدولة والعدالة؛ لا يثق إلا في بندقيته!
-٦-
لم تعد أخبار قتلى الصراع القبلي ذات قيمة إخبارية، لأنها أحداثٌ متكررةٌ، لذا أصبحت تُستقبل بلا دهشة ولا أسى، كأنها أشبه بحوادث السير، بل الغريب أن الأخيرة تجد اهتماماً أكثر من الأولى!
نعم الجراح هنالك لا تبرأ؛ والدماء لا تجف، قد تتوقّف ماكينة العنف أحياناً، لكن سُرعان ما تستأنف نشاطها .
السلاح في يد الجميع، حادث صغير أو اشتجار على أمر تًافهٍ تشتعل على إثره معارك ضارية لا يُوقفها إلا الإرهاق والرغبة في الخلود إلى الراحة للاستعداد للجولات القادمة.
-٧-
ظلّت الحكومات تحتمي بسلبيتها من الاتّهام بأنّها تُناصر مجموعة على أخرى، فهي قد لا تأتي إلا للتعازي!
ما في يد القبائل من سلاحٍ قد يفُوق ما بيد القوات النظامية في بعض تلك الولايات!
بل يتردّد على نطاق واسع أن الصراع القبلي في بعص المناطق يُدار بأسلحة، هي في الأساس حكومية، يستغلها أبناء القبائل المُحتربة، المُنتمون للقوات النظامية في صراعاتهم القبلية، دون أن يكون في مقدرة السُّلطات منع ذلك أو التصدي له!
-٨-
الصراعات القبلية تزحف من أطراف السودان الغربية إلى وسطه في كردفان، وأصبحت تقع داخل تكوينات مُتجانسة إثنياً، بل لها صلات دم وقُربى ومصاهرات ممتدة وقد تصل مركز الدولة في الخرطوم .
لن تُجدِيَ كُلّ الحلول والعلاجات التي ترتق الجرح على فساد، ولا بديل سوى بسط هيبة الدولة، بالمفهوم العام للهيبة ،وسيادة حكم القانون ، مع تقوية الأجهزة العسكرية.
لا توجد مؤشرات تدعو للتفاؤل بأنّ في الإمكان إنهاء النزاعات القبلية في تلك البقاع في الوقت القريب؛ فمُعطيات الصراع وأسبابه لا تزال متوفرة، ولا تزال القبائل لا تثق إلا في السلاح الذي بين أيديها.
-٩-
وفي وجه آخر، يُعتبر الاقتتال القبلي مورداً مالياً لزعامات ظلّت تستثمر في دماء الضحايا، عبر (عمولات) عقد الديات.
الجودية أصبحت “بزنس” ومصدراً للحصول على الأموال .
قبل فترةٍ، أصدرت محكمة، أحكاماً رادعة وصلت حدّ الإعدام في حق مُثيري فتنة قبلية، ومنذ صدور تلك الأحكام لم يتجدّد القتال بين القبيلتين مرةً أخرى.
– أخيراً –
جودية البزنس والوجاهة الاجتماعية هي مصدر استدامة العنف بين القبائل، لا بديل سوى الوصفة الإلهية “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب”.
القصاص بيد الدولة لا بأظافر القبائل