مصطفى ابوالعزائم يكتب في (بُعْدٌ .. و .. مسَافَة) .. للذكرى والتاريخ … الروس قادمون .. قادمون !
سبق أن نشرنا هذا المقال في السابع والعشرين من أبريل العام الماضي ، تحت عنوان « الروس قادمون » وها نحن نعيد نشره ونائب رئيس مجلس السّيادة الإنتقالي الفريق أول محمد حمدان دقلو حميدتي ، يشد الرحال الى موسكو بدعوة من حكومتها ، وقد لا نعرف الملفات التي يتجه الطرفان لفتحها ومناقشتها ، وقطعاً هناك أحاديث لن تخرج عن غرف المفاوضات ، وهي غير تلك التي تخرج للإعلام ، ونجد أنفسنا اليوم نعيد نشر ذات المقال للتأكيد على ما ذهبنا إليه من قبل ، وهو أن موسكو تضع السّودان نصب عينيها ، ونراها قد إستعدت لمواجهة منافسيها علناً ، ودون مواربة مستندة على نائب رئيس مجلس السّيادة الإنتقالي وقائد قوات الدعم السريع ، وهناك علاقات قديمة بين موسكو وبين قيادة الدعم السريع .. ننشر ونترك قراءة الموقف لكم .
*الروس قادمون …*
لم يعد لدى صاحبكم أدنى شك ، في أن التنافس العلني والخفي من قبل القوى الكبرى حول سودان ما بعد الثورة ، سيأتي بنتائج سيئة ، إذا لم تُحْسِن الحكومة إدارة هذا الشأن ، أو لم تتعامل معه التعامل السياسي المطلوب ، فالسياسة الآن تعني الوصول إلى الهدف في أقل وقت وبأقل مجهود ودون خسائر ، حال إذا كان هناك من يسعى لخطب ودّك .
التنافس لكسب ود سودان ما بعد الثورة ، هو في حد ذاته مكسب ، لأنه يمنح إدارة الدولة الفرصة لتقييم الأوضاع العامة ، ودراسة مطلوبات الأطراف المتنافسة ، وتقدير العائدات والمكاسب السّياسيّة والأمنية والإقتصادية والإجتماعية ، في حال إتخاذ قرار بالإنحياز لجهة دون أخرى .
الآن هناك تنافس على بناء قواعد عسكرية بحرية على ساحل البحر الأحمر ، وقد أصبح الآن ساحة صراع علني بين عديد من الدول التي تتضارب مصالحها ، خاصة وإن البحر الأحمر اليوم يعتبر أحد أهم الممرات المائية في العالم ، لأنه يربط بين أهم الموانئ ذات القيمة الإقتصادية ، في بعض الدول المنتجة للنفط وغيره من المنتجات والسلع ، وبين الأسواق العالمية ، إضافة إلى البعد الجيوسياسي ، الذي يجعل المتحكّم في هذا الممر المائي ، متحكّماً في جزء كبير من إقتصاديات العالم وأمنه ، لذلك نجد مثلاً دولة كجيبوتي تستضيف على أراضيها أربع قواعد عسكرية ، ونجد أن الصراع الآن على أشدّه في دولة مثل الصومال لبناء قواعد عسكرية أو مراكز تدريب تقف من ورائها تركيا ، بينما تسعى دول كبرى لمزاحمة تركيا هناك ، إن لم تكن تعمل على إقصائها .
بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي القديم ، وقيام جمهورية روسيا الإتحادية ، وبعد إنهيار الأنظمة الشيوعية أو اليسارية في القارة الأفريقية ، وكثير من دول العالم ، لم تترك الدول الكبرى ما خلّفه غياب تلك الأنظمة من فراغ ، فسارعت دول إستعمارية قديمة وحديثة لملء الفراغ ، أما لتحقيق مكاسب سياسية أو أمنية أو إقتصادية ، وشهدت القارة الأفريقية هبوطاً ناعماً من قبل بعض الدول التي كانت تحلم بموطئ قدم لها في أرض الموارد الواعدة افريقيا .
بعض الدول الإستعمارية القديمة لم تفرط في مستعمراتها ، مثل فرنسا التي كانت قد أبقت على قواعد عسكرية في مستعمراتها حتى بعد الإستقلال ، مثلما حدث في دولة تشاد أو أفريقيا الوسطى ، وكل ذلك لمعرفة فرنسا بحجم الثروات الهائلة التي تذخر بها تلك البلدان .
ظل موقع السُّودان منذ الأزل السياسي ، موقعاً إستراتيجياً متميزاً ، يربط ما بين شمال الصحراء الأفريقية وما بين جنوبها ، والذي يتحكم بأدوات الحكم في هذا البلد ، يمكنه أن يتحكم في كثير من دول القارة ، خاصة وإنه يتمتع بثروات وموارد هائلة ومتجددة ، لكن التحكّم في أدوات الحكم بالسودان يتطلب التحكّم في النُخب السّياسيّة ، والعمل على تقسيمها وتجزئتها حتى لا تتوحد وتقف أمام أي مشروع عالمي للسيطرة على القارة الأفريقية والتحكم في دولها .
نظام حكم الإنقاذ السّابق جاء برؤية إسلامية سياسيّة واضحة ، وهو ما جعل المتحكّمون في إدارة حكومة العالم الخفية ، يحاربونه ويضيّقون عليه الخناق ، تارة بالحصار ، وتارة بالعقوبات الاقتصادية ، وتارة بالحروب القبلية والمحلية ، إلى أن سقط بعد صمود لثلاثين عاماً أدهش حتى أهل الإنقاذ أنفسهم ، بسبب شراسة الحرب ضدهم .
عرف السُّودانيّون أهمية وقيمة بلادهم ، وسعت قوىً خارجية ودولية لكسب ود النُخب السّياسيّة التي تحلم أول تعمل على أن تؤول إليها الأمور بعد زوال حكم الإنقاذ ، بعض هذه النُخب كانت تعي ما يدور حولها ، وبعضها كان مغيّباً تماماً لا يرى إلّا كرسي الحكم ومفاتيح السّلطة . ومع ذلك كله كانت قوىً شعبية كبيرة مُغيّبة عن قصد ، وتمت تعبئتها في إتجاه واحد هو إسقاط نظام الإنقاذ دون طرح البديل الموضوعي ، ويتمثل ذلك في شعار الثورة الإحتجاجي (تسقط بس ) .
سقط نظام الإنقاذ ، وتسارعت القوى الدولية لوضع يدها على المكاسب التي حرمت منها سنين عدداً ، وتكشّفت مع الأيام تلك المكاسب التي تزيد تلك القوى الدولية قوة ، وظهرت على المسرح الولايات المتحدة الأمريكية تريد إنشاء قاعدة عسكرية بحرية على ساحل البحر الأحمر ، وكذلك روسيا معتمدة على إتفاق مسبق مع حكومة البشير يمنحها هذا الحق ، وظهرت تركيا تحمل مسودة إتفاق مع حكومة السُّودان وقتها ، تُمْنح بموجبه قاعدة عسكرية ، وتنشئ من جانبها مصنعاً لطائرات الدرون ينتج حوالي ألف طائرة في العام ، وقد أصبح هذا النوع من الطائرات في زماننا هذا من أسرع الوسائل في حسم المعارك .
روسيا أرادت الدخول من باب الأعمال الإنسانية ، فنحن نسمع ونرى ما يقوم به رجل الأعمال الروسي ” يفغيني بريغوجين ” بشراكات سودانية ، من أعمال إنسانية بتقديم الدعم والعون لنحو مليون أسرة سودانية ، بتوزيع سلال رمضان ، أو بتوزيع الاحتياجات الضرورية لعدد من المتأثرين النزاعات في جنوب كردفان وغيرها من المناطق بإتفاق مع بعض الحركات .
روسيا عرفت مدخلاً لم يعرفه منافسوها ، لكنهم حاولوا أن يلحقوا بها من ذات الباب ، ولا نرى أنهم سيجدون من التقدير الشعبي ما تجده روسيا ، ونحن نعرف إن ما قام به رجل الأعمال الروسي ” يفغيني بريغوجين ” لم يكن مصادفة ، فالرجل من المقربين للرئيس الروسي” فلاديمير بوتين ” وهو من أصدقائه المقربين ، وتقول تقارير كثيرة إنه من الممولين لمليشيات فاغنر المعروفة ، وإنه رجل شديد النشاط ، ويدير عدة مشاريع ضخمة ، وله القدرة على التحكم باللوجستيات وإنه على علاقة قوية بالمخابرات الروسية .
السؤال الآن ، هل أصبح الباب مفتوحا أمام روسيا لتعوض سنوات الحرمان الطويلة التي انقطع خلالها وجودها في إفريقيا (؟) الإجابة ستكون عند متخذي القرار ، إذا أعدوا دراسة وافية كافية ، شافية .
Email : sagraljidyan@gmail.com