(بحصافة) .. نداءُ أهلُ السودانِ.. وطوقُ النجاةِ المرتقبِ إمام محمد إمام
i.imam@outlook.com
كانت وما تزال الطرق الصوفية تُسهم بقدرٍ فعالٍ، في الخارطة السياسية السودانية، إضافةً لإسهامها غير المنكور في تمتين ممسكات الوحدة الوطنية في السودان. وقد أُلقي على عاتقها إرثٌ عظيمٌ، إذ أنها مهدت سُبل الهداية والرشاد، بإدخالها الإسلام في السودان، دون غزواتٍ أو فتوحاتٍ، أُريقت فيها دماءٌ، وتمكنت منها مرارت. من شرق البلاد أتى دين التوحيد إلى أهليّا في الشرق، وسبقه دخول العرب منها إلى السودان، ومن غربها جاء الإسلام هادياً ومرشداً للسودانيين من المغرب العربي، أما من شمالها، فاستعصت على جحافل جُند عبد الله بن أبي السرح، فلم يجد مناصاً من إبرام معاهدة إتفاقية البُقط، وهي معاهدة بين مملكة المقرة والدولة الإسلامية في خلافة سيدنا عثمان بن عفان، بعد فتح جيش المسلمين لمصر. واستمرت هذه المعاهدة نحو سبعمائة سنة، لذا تعتبر من أطول المعاهدات في التاريخ، إذ من خلالها دخل دين الله إلى السودان.
فلا غروَّ أن نهض سماحة الخليفة الشيخ الطيب أحمد الجد العباس محمد أحمد موسى محمد ود بدر رئيس المجلس الأعلى للتصوف وعضو مجمع الفقه الإسلامي، بحماسةٍ راشدةٍ، وتأسياً بأسلافه خلفاء طريقة البادراب الصوفية، في نجدة بني السودان في كبواتهم وأزماتهم، وعند ملماتهم وابتلاءاتهم، منذ قديم الزمان، من مسيده لإطلاق نداء لكافة أهل السودان للتوافق الوطني، دون إقصاءٍ لجماعةٍ أو عزلٍ لأفرادٍ، وليلبوا هذا النداء الوطني الجامع، زُمراً وفُرادىً مثل ما يدعو الحجيج الموسم، إذ أن الخطب الوطني جللٌ، والسودانيون عنه غافلون! ومن أسمى مقاصده من هذا النداء، جعله طوقٌ نجاةٍ مرتقبٍ، استشعاراً منه بالراهن السياسي المأزوم، وتنزيلاً لقول الله تعالى: “وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ..”.
وكنتُ مع نفرٍ كريمٍ، في طليعة مَنْ استجابوا لهذا النداء، وعملوا على تثبيت أركانه، وذيوع أمره بين الناس. وأفخر بأني من أوائل مَنْ كتب عنه في الوسائط الصحافية – التقليدية والحديثة- وبشرت به في المحافل والمنابر. كما ترأست اللجنة المنظمة للإفطار الرمضاني لنداء أهل السودان للتوافق الوطني في يوم السبت 20 أبريل (نيسان) 2022 بدار الشرطة في حي بُري بالخرطوم. فكان ذاكم اللقاء أول لقاءٍ جماهيريٍ للتبشير بنداء أهل السودان، إذ أمَّه رجالاتُ الطرق الصوفية والإدارة الأهلية وأصحاب العمل وأساتذة الجامعات والدبلوماسيون والصحافيون والإعلاميون، وآخرون -ذكراناً وإناثاً-.
وأحسبُ أن سماحة الخليفة الشيخ الطيب الجد ود بدر، وهو يطلق نداءه ذاكم، استذكر المقولة الشهيرة التي أطلقها الكاتب المسرحي الإنجليزي وليام شكسبير على لسان بطل مسرحيته “هاملت”، وهي:
“To be, or not to be” is the opening phrase of a
soliloquy given by Prince Hamlet
وترجمتها: «أكون أو لا أكون» هي العبارة الافتتاحية في المناجاة الفردية التي نطق به الأمير هاملت!
وكأني بشيخنا الخليفة الطيب الجد ود بدر في ندائه لأهل السودان كافة، تنبيههم جميعاً، أنهم إن لم يتداركوه “يكون السودان أو لا يكون”! ويذكرهم بقول الله تعالى: “وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ”. وللذين لا يعرفون سماحة الخليفة الشيخ الطيب الجد أنه من خريجي العهدين، كلية غردون التذكارية (1902 – 1955) وجامعة الخرطوم (1956 إلى يوم الناس هذا)، فهو دخل الكلية في عام 1955، وتخرج فيها بعد أن أصبحت جامعة عام 1959. وتتدرج في السلك القضائي إلى أن ارتقى أعلى مراقيه، قاضياً في المحكمة العليا. وأعلم من بعض حواريه، أنه قارئٌ نهمٌ باللغتين العربية والإنجليزية، بعد تلاوة القرآن الكريم، وإتمام أوارده، وإكمال أذكاره.
عجبتُ لبعض رسلائي ورسيلاتي في الوسائط الصحافية والإعلامية، لا سيما في مواقع التواصل الاجتماعي، الذين اندهشوا عندما لم يكن الخليفة الطيب الجد في حاجةٍ إلى تُرجمانٍ، عندما تحدث بلسان إنجليزيٍ فصيحٍ للدبلوماسيين غير الناطقين باللغة العربية، ونسوا أو لم يعلموا أنه أحد خريجي جامعة الخرطوم في عهدها الذهبي، في نهاية خمسينات القرن الماضي، ولكنه مع كل هذا، يتمسك في المخاطبة بلغة القرآن الكريم، وآي البيان العظيم.
وفي رأيي الخاص، أن سماحة الخليفة الشيخ الطيب الجد، انتفض من مسيده، منادياً ومؤذناً في السودانيين أن هبوا لتلبية نداء أهل السودان. وأسأل الله تعالى ألا يكون حال شيخنا، كإمامِ صاحب المعرة أبي العلاء المعري، حين قال:
يرتجي الناسُ أن يقومَ إمامٌ
ناطقٌ في الكتيبة الخرساء
فالأزمة الوطنية الراهنة، قد أخذت بخناق الوطن والمواطن معاً، فعلى الجميع أن يستجيبوا للنداء، قبل أن تتمزق أوصاله، وتتشظى وحدته، وتنثلم سلامة كيانه، ويعيش أهلوه مسغبةً وخوفاً، وضيقَ معاشٍ، فتتبدد مقدرات البلاد، وتضيع مصالح العباد، وعند ذاكم، لات ساعة مندم!
مما لا ريب فيه، أن استنكار بعض أهل السياسة، ولوج المشائخ والزعامات الدينية في معترك السياسة، بدعوى أنه فيه إقلالٌ من هيبتهم، وانشغالٌ عن واجبهم الديني! ولكن المعروف تاريخياً في السودان، قديماً وحديثاً، اهتمامهم بقضايا رأب الصدع بين السياسيين، وإصلاح ذات البين السياسي، وخير مثالٍ لذلك، السيدان عبد الرحمن محمد أحمد المهدي وعلي محمد عثمان الثاني محمد الحسن محمد عثمان الميرغني الختم والشريف يُوسُف محمد الأمين الهندي، ودورهم السياسي الفاعل، المسطور في الكتب والصدور، ثم سار على دروبهم خلفهم إلى يوم الناس هذا!
فعليه يستغرب المرء من استنكار بعضهم، تلميحاً وتصريحاً، – جهلاً أو غرضاً- أن ينهض سماحة الخليفة الشيخ الطيب الجد ود بدر، عندما تراءى لناظريَّه أن الراهن السياسي في السودان، إن لم يتداركه المصلحون الوطنيون، فالعاقبة ستكون وخيمة، ولن تظل خارطته المنثلمة -كما هي عليه اليوم-، بل تزداد انثلاماً وتمزقاً! فهنالك ثمة مهدداتٍ لوحدته، وسلامة كيانه، واستدامة استقراره، بل قد ينتهي حال هذه الأزمة السياسية الراهنة إلى حسم اضطراب الأمير هاملت الشكسبيري، في مقولته الشهيرة “أكون أو لا أكون”! في ألا يكون هنالك سودان! فحتم الواجب الشرعي والوطني والأخلاقي على شيخنا، أن يطلق نداءه لكافة أهل السودان للتوافق الوطني. فالتداعيات شرٌّ مستطيرٌّ، لهذا الخُلف السياسي الخطير. وكأني بشيخنا في هذا الموقف العصيب، يسترجع قول إمير الشعراء أحمد بكِ شوقي:
إلامَ الخُلفُ بينكُمُ إلاما
وَهَذي الضَجَّةُ الكُبرى عَلاما
وَفيمَ يكيدُ بَعُضُكُمُ لِبَعضٍ
وَتُبدونَ العَداوَةَ والخِصاما
وأكبر الظن عندي، أن شيخنا أدرك، دون كثير لجاجةٍ، أن تداعيات ذاكم الخُلف، وتلكم العداوة، تستدعي أن يقوم صارخاً في القوم، بذاكم النداء، الداعي أهل السودان كافة للتوافق الوطني، وإلا فلا المواطن استقر، ولا الوطن داما!
أخلص إلى أنه، من المأمول أن يحقق لقاء المائدة المستديرة التي ستنعقد يوم السبت 13 أغسطس (آب) 2022,
في قاعة الصداقة بالخرطوم، التوافق المنشود بين السودانيين على نبذ الصراع والخلاف بينهم، لسد الذرائع أمام التدخلات الأجنبية ذات الأطماع والأهداف الشريرة، وأن يختفي خطاب الكراهية والإقصاء من قاموس الفترة الانتقالية، لدرء فتنة هوجاء لا تبقي ولا تذر، ولا تُصيب الذين ظلموا من السودانيين خاصة! والبدء بصدقٍ وإخلاصٍ في إنجاح “نداء أهل السودان للتوافق الوطني”، بالبحث عن المشتركات التي تحقق وفاقاً وطنياً، يُفضي إلى حكومة فترة انتقالية من شخصياتٍ مستقلةٍ (تُكنوقراط)، تستهدف وحدة البلاد، وسلامة أراضيها، وتُطعم المواطنين من جوعٍ، وتُؤمنهم من خوفٍ، وتهيئ الظروف المواتية، لانتخابات نزيهة وشفافة، لا تشوبها شائبةٌ، ولا تطعن في نتائجها جماعةٌ، تمنح تفويضاً شعبياً حقيقياً للفائزين، عبر صناديق الاقتراع. وما ذاكم ببعيدٍ عن السودانيين، إذا أرسوا بينهم ثقافة قبول الآخر، وإذا اتفقوا وهجروا الخُلف والخصام والعداوة والبغضاء!
ولنستذكر في هذا الخصوص، مع الخليفة الشيخ الطيب الجد ود بدر قول الشاعر العربي عمرو بن الأهتم التميمي:
لَعَمْرُكَ ما ضاقَتْ بِلاَدٌ بأَهْلِهَا
ولكنَّ أَخلاقَ الرِّجالِ تَضيقُ
ولنستجيب مع مُلبيي”نداء أهل السودان للتوافق الوطني”، لقول الله تعالى: “وَٱعْتَصِمُواْبِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ ۚ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦٓ إِخْوَٰنًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍۢ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ”.