(فنجان الصباح ) .. احمد عبدالوهاب .. شارع فكتوريا.. شارع د. عبد الرحمن الخضر !!!
” انني أختار الحياة.. لأن ثمة أناس أحب أن أبقى بينهم أطول وقت ممكن” !!!
” الطيب صالح”
شارع من عظمته أن خلع عليه الإنجليز إسم ملكتهم فيكتوريا.. وحمل ذلك الإسم طيلة عهد الاستعمار ، وردحا من زمان.. ثم حمل المستعمر عصاه ورحل.. ولم يبق من آثاره سوى أشجار معمرة على الضفة اليسرى للنيل الأزرق.. مع رصيف هرم ظل يكافح قرابة قرن لكي يصد صولة الفيضان.. وهجمة الهدام.. مع جسر حديدي عتيق كأنه مدرسة مختلطة لمحو أمية الكبار، فيه جانب للسيارات،، وآخر للقطار .. وما يشبه الزقاق خصصوه للسابلة من مشاة وراكبي بسكليتات.. يوم كانت الخرطوم تتنفس هواء نقيا مشبعا بروائح الفل والزهور،، ونفحة الريفدور..
وقد قيل” والعهدة على الرواة” إن هذا الجسر بعد أن خدم ماشاء الله له أن يخدم في درة التاج البريطاني ” الهند” جيئ به مفككا وأعيد بناؤه على الأزرق الهدار.. ليحتل المرتبة الثانية بعد جسر نهر العطبرة في مسير السكة الحديد من حلفا إلى الجنوب..
وظل شارع فكتوريا ( شارع عبد الرحمن الخضر) على حاله حينا من الدهر، ضيقا جدا، وقصيرا جدا.. يكبح جماح تمدده وآفاق تطوره حاجز النهر المجنون. ومباني الدولة ومشفى العيون.. الذي دخل وهو اخريات إلى نادي المبان الأثرية التي يحميها القانون..
وكأني بالدوش يعني شارع النيل ( فكتوريا .. الخضر) عندما انشد ( الضل الوقف ما زاد)..
كانت ضفة الأزرق في نسختها الخرطومية عبارة عن حيازات أهلية خاصة، وجروف باتت إلى عهد قريب مستوطنات للعشر والشوك مع بساتين وشئ من سدر قليل..
كان المنظر صادما لكل ناظر وزائر، كأنه ديكور لمسلسل (وادي أم سدر) وقد عثر عليه بأحد المخازن.. كان شاطئا يمنح دور البطولة لنافخ الكير، بدل أن يقلدها لحامل المسك..وبائع البخور..
كانت أعمدة الدخان والحطب المحروق كأنها مقاطع حية من غارة جوية غاشمة..
وكانت الثورات تهب وتخبو، والحكومات تأتي وتسقط،، والطريق على حاله..
والعجيب.. أنهم يرددون (درشونا والبنوت نيام) بدل أن ينشدوا مع أولاد الموردة (يا مداعب الغصن الرطيب) ..
حتى جاءه على قدر الرجل الأخضر دكتور عبد الرحمن الخضر(٢٠٠٩-٢٠١٥) – فك الله أسره – كما فك أسر الخرطوم من سجن فكتوريا..
أماط الخضر الأذى والقذى عن شارعه، وأعاد له تلك الطلاقة والأناقة،، وذياك البريق..
وصار الشارع رئة عاصمية، وأكبر وأنضر (هايد بارك) جنوب الصحراء.. مقدما خدمة مرورية لاتقدر بثمن لأكثر من خمسة جسور دفعة واحدة.. صانعا أجمل طريق ساحلى.. يتمنى مثله الخليل لكي يمشي فيه حافي حالق..
من نهايات شارع اوماك، مرورا بجسور المنشية، وبري والحديد.. والمك نمر.. شارع كالاحلام والصباح الجديد..
ثم بين يدي القصر الجمهوري يناول الطريق إلى توسعة عبقرية ليس لها نظير في تاريخنا القديم ، وليس لها سابقة في القارة السمراء.. وصولا لجسري توتي والنيل الأبيض..
لقد تم التجاسر على نيل متمرد،، والاجتراء على نهر َمجنون، كأول وأروع مغامرة على طول النيل الأزرق من بحيرة تانا، إلى السلام روتانا.. عمل يسرته المقادير للخضر،، بينما استعصى حتى على بناة الأهرام، من البجراوية للاسكندرية..
وبقفزة اسطورية بمحازاة القصر الرئاسي ، تحاشى الشارع مبان أثرية ودواوين وعمائر ، بما يشبه الجسر الطائر.. ويا لعذوبة الانجاز.. ويالعملية الالتفاف العبقرية..
ومن ذاق وجع الإنتظار ، واختناق الشوارع وسموم الصيف، ومن عرف جنون الأزرق الهدار سيعرف – لا محالة – عظمة المهمة، ويدرك جسارة الإنجاز .. وبسالة الإنقاذ..
فك الدكتور الخضر أسر الخرطوم الجميلة التي لاتحفظ الجميل .. ليقع من أسف في أسر وسجون وجنون لجنة التمكين..
نسأل الله تعالى
أن يفرج كرب الدكتور واخوته.. ويقيض لهم ربيع عدل يعيدهم إلى أطفالهم وذويهم سالمين غانمين ، بعد ان قضوا قرابة أربع سنوات من ظلم الجلاد وظلام السجن..
وأن يعبد طريق جلاوزة التمكين من سجن سوبا إلى سجين..