بعد قطيعة ربع قرن سفير أميركي جديد في السودان التفاعلات والتحديات الداخلية خلال الفترة القادمة بروفيسور صلاح الدين محمد إبراهيم
أعلنت سفارة الولايات المتحدة الأميركية في الخرطوم أن السفير جون غودفري قد تسلم عمله في السودان كأول سفير لها منذ 25 عاماً ، بعد أن قدم أوراق اعتماده يوم الأربعاء 31 سبتمبر 2022، في حفل بالقصر الجمهوري بالخرطوم للفريق عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي الانتقالي (وكالة الأناضول،24 أغسطس 2022) ، وفي يوم الثلاثاء السادس من أكتوبر قدم السفير محمد عبد الله إدريس أوراق اعتماده في البيت الأبيض ، وتأتي هذه التطورات كبداية لنقلة جديدة في العلاقات السودانية الأميركية بعد أن كانت واشنطن قد قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع السودان عام 1996، وقال السفير غودفري ” سوف يعمل على تحقيق أحلام الشعب السوداني في الحرية والسلام والعدالة ، ونقر انسحاب الجيش من الحياة السياسة بمجرد تشكيل حكومة مدنية تتمتع بالمصداقية وهي خطوة مهمة تساعد على استئناف المساعدات الحكومية ويمكن أن تساعد السودان للخروج من الأزمة السياسة والاقتصادية وتعزيز التعاون مع الولايات المتحدة” ( كونا ، الأول من سبتمبر 2022)، وكان وزير الخارجية مايك بومبيو قد أعلن في ديسمبر 2019، أن بلاده قد قررت تبادل السفراء مع السودان بترفيع التمثيل الدبلوماسي من درجة القائم بالأعمال إلى درجة السفير ( القدس، 4 ديسمبر 2019).
بداية في مشهد داخلي مضطرب
انخرط السفير بعد تقديم أوراق اعتماده في المحادثات التي كان من المقرر أن تعقد بمنزل السفير السعودي بضاحية كافوري بشمال الخرطوم( الخرطوم بحري)، والتي تنظمها الآلية الرباعية التي تضم كلا من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية ، ولكن وفقاً لقوى الحرية والتغيير لم تنعقد المحادثات بسبب خلاف بين الحرية والتغيير ( المجلس المركزي) والحرية والتغيير ( الميثاق الوطني) حيث أصر أعضاء (المجلس المركزي )على خروج مجموعة ( التوافق الوطني) التي تضم مناصرين لنظام حكومة عمر البشير ، وقال قيادي بالمجلس المركزي جعفر حسن إنه لم يتم تحديد موعد جديد للاجتماع ( الراكوبة ، نقلاً عن صحيفة الانتباهة بتاريخ 5 ديسمبر 2022).
جاء استلام السفير الأميركي لعمله في الخرطوم في أعقاب أزمة حادة، بين المكون العسكري في المجلس السيادي الانتقالي ، والحرية والتغيير ( المجلس المركزي) الذي يضم ( حزب الأمة، حزب المؤتمر السوداني، حزب البعث العربي، وتجمع الاتحاديين) ، بدأت الأزمة بعد قيام قائد القوات المسلحة الفريق عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر 2022 بإعلان حالة الطوارئ وحل مجلس السيادة الانتقالي و مجلس الوزراء ، وتم وضع رئيس الوزراء عبدالله حمدوك تحت الإقامة الجبرية وتعليق مواد في الوثيقة الدستورية تجمد البنود المتعلقة بمشاركة قوى الحرية والتغيير، وتم توجيه اتهامات من مجموعة ( المجلس المركزي) لمجموعة ( الميثاق الوطني) والمكون العسكري بتدبير الانقلاب ، والحقيقة أن عدم الثقة بين العسكريين والمدنيين بدأت قبل قرارات القائد العام للقوات المسلحة التي وصفت بالانقلاب ، حيث وجه محمد الفكي وهو عضو في المجلس السيادي الانتقالي وعضواً في قوى الحرية والتغيير ( المجلس المركزي) هجوماً على العسكريين ، وقال أن البرهان ليس وصيا على الشعب السوداني ، وأن الجلوس مع العسكريين يخصم من رصيدهم السياسي ( الجزيرة نت ، 24 سبتمبر 2021) ، وأعلن خالد يوسف وزير شؤون الرئاسة وهو أيضا ًعضو في قوى الحرية والتغيير ، أنهم مستعدون للمواجهة مع العسكريين، ظل بعض أعضاء قوى الحرية والتغيير يعتقدون أن العسكريين يتلاعبون بالقوى المدنية ، كما ـأن بعض المدنيين ينطلق من رؤية أيديولوجية ( عربي بوست، 25 أكتوبر 2021) ، وهو ما خلق فجوة ثقة كبيرة.
لم تفلح المساعي التي قامت بها الآلية الثلاثية التي ضمت بعثة الأمم المتحدة الشاملة لتسهيل الفترة الانتقالية( اليونيتامس ) والاتحاد الأفريقي ، ومنظمة (الإيقاد ) في حل الأزمة، على الرغم من تعدد المبادرات التي قدمت للحل من قبل العديد من الأحزاب والمنظمات المدنية السودانية مثل بعض الجامعات السودانية والتنظيمات الأهلية والنقابات ، وبعض الحكماء ـ و فشلت كل الجهود لتوحيد تلك المبادرات والوصول إلى نقطة التقاء بين المكونات السودانية، وكان حضور السفير الأميركي لمنزل السفير السعودي يأتي ضمن ما تقوم به الآلية الرباعية لتقريب وجهات النظر بين المكون العسكري والمدنيين ، وسبق أن شهدت الفترة العديد من المبادرات لحل الأزمة السياسية منها مبادرات أممية ، وإقليمية ، ومن جنوب السودان، والكثير من المبادرات الداخلية ( وكالة الأناضول 18 يناير 202).
تاريخ من العلاقات المتناقضة بين التعاون والعداء
منذ فترة رئاسة الرئيس الأميركي كلينتون بات واضحاً أن واشنطن بدأت تتعامل مع السودان وفقاً لمطلوبات وشروط وضعتها الإدارة الأميركية للتعامل مع دول العالم الثالث وفي مقدمتها الحكم الرشيد والتداول الديمقراطي للسلطة ، وحقوق الإنسان ، وقد كان لوصول الإسلاميين إلى السلطة عام 1989، في أعقاب تجربة ديمقراطية اثراً سلبياً على تطور علاقات الخرطوم وواشنطن، خاصة بعد قيام المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي الذي دعا له د. حسن الترابي زعيم الجبهة القومية الإسلامية في السودان عام 1991، وتبنته حكومة عمر البشير، وحضر المؤتمر كل زعماء الحركات الإسلامية في العالم ، وتوترت علاقات الخرطوم وواشنطن أكثر بعد أن استضاف السودان زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن بين 1991-1996، وكان ذلك من أسباب اتهام السودان بالإرهاب ( روبرت كولنز 2010 ) كان من أكثر مظاهر التوتر مهاجمة واشنطن بالصواريخ مصنع في الخرطوم عام 1998، بحجة أنه يصنع أسلحة كيماوية انتقاماً لحادثتي تفجير سفارتي واشنطن في نيروبي ودار السلام في أغسطس 1998، وتشير أماني الطويل أنه بعد اتضاح المخاطر التي يمثلها النظام الإسلامي في الخرطوم على حلفاء واشنطن في المنطقة ، وفشل مفاوضات السلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق في نيروبي عام 1989، استطاع الأخير أن يوظف كل تلك المعطيات ضد نظام الرئيس عمر البشير (أماني الطويل معهد الدوحة ، 10 فبراير 2011) .
يقول السفير محمد عبدالله إدريس سفير السودان في واشنطن، أن وجود السودان في قائمة الإرهاب شكل علاقة غير طبيعية وغير تصالحية ، بل عدائية تجاه الحكومة السودانية ، وقال إن العلاقة مقبلة على مرحلة جديدة بعد ثورة ديسمبر 2019 ( وكالة لسودان للأنباء 25 مارس 2022) ، غير أن إدارة الرئيس بايدن قالت إن مساعدات بقيمة 700 دولار لن يتم تقديمها للسودان ما لم يتم تشكيل حكومة مدنية ذات مصداقية ، مع استمرار تقديم المساعدات الإنسانية ( واشنطن بوست 26 أكتوبر 2021).
استمرار التصعيد على خلفية مشكلتي الجنوب ودارفور
ظلت واشنطن تعمل على تصعيد الضغوط على حكومة عمر البشير، وكان هدفها العمل على توحيد الحركات الجنوبية تحت قيادة جون قرنق ، خاصة بعد توقيع كل من رياك مشار ولام أكول وهما من قبيلتي الشلك والنوير اللتين على خلاف مع جون قرنق وهو من قبيلة الدينكا اتفاقاً منفصلاً مع الحكومة عام 1997، عندما نجحت الحكومة في إحداث شرخ في جسم حركة التمرد وتوقيع اتفاق سلام مع بعض الفصائل الجنوبية مستفيدة من التكتلات القبلية داخل الحركة ( اتفاقيات سلام سودانية في مهب الريح ، البيان، 16 مايو 2001) ،غير أن واشنطن نجحت في نهاية المطاف في تحقيق اصطفاف جنوبي خلف قيادة جون قرنق انتهى باتفاقية السلام الشامل عام 2005، وانفصال جنوب السودان عام 2011.
لم تفلح اتفاقية السلام الشامل في طي الخلافات بين الخرطوم وواشنطن، فقد اندلع القتال في دارفور وأدت العمليات التي قامت بها الحكومة إلى توجيه اتهامات لها بالإبادة الجماعية في بعض القرى والمعسكرات ، وتم تصعيد الأمر إلى مجلس الأمن الذي حول الملف إلى محكمة الجنايات الدولية في ديسمبر 2010، وقد بذلت دولة قطر جهوداً كبيرة للمساعدة في حل أزمة دارفور واستضافت محادثات بين أطرف الأزمة لمدة عامين في الدوحة، توجت بوثيقة الدوحة للسلام ، كما ساهمت بالدعم المالي لمشروعات التنمية ( الجزيرة نت ، 16 يونيو، 2017) ، و ظل اتهام الرئيس البشير وبعض المسؤولين في الحكومة يشكل عقبة جديدة أمام تطبيع العلاقات الأميركية السودانية، بجانب اتهامات حول حقوق الإنسان وانتهاك الحريات ومطالب بمكافحة الإرهاب ( واشنطن ترجئ البت في رفع العقوبات في السودان ، بي بي سي، 12 يوليو 2017) ويمكن إجمال أهداف السياسية الأميركية في السودان حالياً في التالي:
مكافحة الإرهاب والعمل على ألا يصبح السودان ملاذاً للحركات الإرهابية مثل القاعدة وداعش.
مراقبة التحركات الصينية والروسية داخل السودان التي تسعى لمنافسة الوجود الغربي.
المشاركة في الجهود الرامية للتوفيق بين القوى السياسية السودانية بهدف التوصل لتشكيل حكومة مدنية انتقالية.
ليس واضحاً رؤية الإدارة الأميركية حول العلاقة بين العسكريين والمدنيين خلال الفترة الانتقالية، خاصة بعد صمت البيت الأبيض تجاه تصنيف الكونجرس قرارات 25 أكتوبر التي اتخذها قائد الجيش بأنها انقلاب على الوثيقة الدستورية التي وقعت عام 2019، بين القوات المسلحة وقوى الحرية والتغير.
واشنطن سياسات جديدة نحو السودان
بعد ثورة ديسمبر 2019، أعلنت كلا من الولايات المتحدة والسودان النية لتبادل السفراء، وقدم سفير السودان أوراق اعتماده لوزارة الخارجية الأميركية في سبتمبر 2020، ورشح البيت الأبيض جون غودفري سفيراً لدى السودان ، وظل الترشيح قيد النظر في الكونجرس منذ فبراير 2020، وفي 14 ديسمبر2020، تم رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب ، وكان هذا يمثل تطوراً مهماً في العلاقات الأميركية السودانية ، غير أن التطورات التي حدثت بعد خروج حمدوك من الإقامة الجبرية ، وتعينه باتفاق مع البرهان مرة أخرى رئيساً للوزراء في نوفمبر 2021، ثم استقالته في يناير 2022، بعد انتشار الاحتجاجات في الشوارع والعنف ضد المتظاهرين ، كل ذلك تسبب في تأخير وصول السفير الأميركي للخرطوم( وزارة الخارجية الأميركية) .
عقبات أمام السفير الأميركي في السودان
حدد السفير غودفري ملامح مهمته في السودان في دعم تطلعات الشعب السوداني في الحرية والسلام والعدالة والانتقال الديمقراطي، وهي ذات المهمة التي ظلت تعمل من أجلها دول الترويكا في الخرطوم منذ بداية الثورة في ديسمبر 2019، وتضم هذه الدول كلا من بريطانيا والترويج وكندا والولايات المتحدة وسويسرا والاتحاد الأوروبي بجانب بعثة (اليونيتامس) التي عينتها الأمم المتحدة لدعم وتسهيل التحول الديمقراطي في السودان.
ولعل ما حدث بعد فشل الاجتماع الذي كان من المفروض أن يتم بحضور السفير الأميركي في منزل السفير السعودي هو تكرارا لما ظلت تواجهه كل المحاولات التي بذلت من المجتمع الدولي والإقليمي لتسهيل التوافق بين الفرقاء السودانيين العسكريين والمدنيين، ومن أهم العقبات التي تواجه السفير غودفري هي:
إمكانية التوفيق بين القوى المناهضة للانقلاب وتلك التي تقول إنه ليس انقلابا وهما مجموعتا المجلس المركزي، والميثاق الوطني، علماً بأن الإدارة الأميركية لم تستخدم كلمة انقلاب، على الرغم من أن الكونجرس وصف قرارات 25 أكتوبر بأنها انقلاب (مشروع قرار على فرض عقوبات على قادة الجيش، الشرق الأوسط، 5 نوفمبر 2021) .
موقف بعض القوى الرافضة الجلوس مع المكون العسكري للحوار مثل الحزب الشيوعي السوداني، وحزب البعث العربي وبعض لجان المقاومة التي تقود الاحتجاجات في الشوارع.
تكوين الحكومة الانتقالية ودور العسكريين بعد إعلان الحكومة المدنية، وما هو تصور الولايات المتحدة لدور العسكريين في ظل المخاطر الإقليمية والحديث عن تمدد تنظيم القاعدة شرقاً عبر حركة الشباب الصومالية، وفقاً للتقارير الأميركية التي قدمتها (أفريكوم) .
مدى قدرة الحكومة الأميركية ورغبتها على ممارسة ضغوط وتقديم حوافز وإقناع الفرقاء على تقديم تنازلات في ظل عدم الثقة السائد بين العسكريين والمدنيين.
مناقشة وتحليل
جاء قدوم السفير الأميركي إلى السودان في ظل حالة من الجمود السياسي وانسداد طرق حل الأزمة السودانية التي بدأت بعد قرارات القائد العام للقوات المسلحة في25 أكتوبر، التي تباينت الرؤى حولها بين من وصفوها بالتصحيحية والذين وصفوها بالانقلاب، وهي أوصاف متبادلة بين القوى السياسية المتصارعة على الحكم ، ومن المؤكد أن السفير سوف يعمل بناء على موجهات السياسة الخارجية الأميركية التي لا يحتل فيها السودان أولوية كبيرة ، بخلاف المخاوف المرتبطة بالإرهاب وعدم الاستقرار داخل السودان الذي يمكن أن يؤثر على أقرب حلفاء واشنطن في المنطقة العربية والقرن الأفريقي ، وفي حالة السودان تعتقد واشنطن أن الاستقرار في المرحلة القادمة يرتبط بتأسيس نظام مدني ديمقراطي تسنده قاعدة عريضة من التوافق في قطر تتعدد فيه الأعراق والقبليات ويعاني من الفقر والضعف الاقتصادي.
سوف يكون من أكبر شواغل السفير الأميركي في السودان محاولة بناء جسور وعلاقات قوية مع الحكومة المدنية المرتقبة والمجتمع المدني ، واستخدامها جهودها للحد من تأثير التحركات الروسية والصينية ، خاصة في ظل تنامي التجارة بين موسكو والخرطوم في مجال التعدين والتعاون العسكري، كما تواجه السياسة الأميركية الحوافز والقروض الصينية الميسرة التي تقدمها الصين لدول القارة ، وهي تحديات تتطلب من واشنطن أن تعمل على فك تجميد المساعدات الأميركية، وتيسير تعاون السودان مع مؤسسات التمويل الدولية وفي مقدمتها صندوق النقد والبنك الدوليين اللذين ما زالا يجمدان علاقتهم مع السودان في انتظار عودة الحكم المدني.
إذا ما نجح السفير غودفري في إحداث اختراق في الأزمة السودانية بحكم ثقله الدبلوماسي بين السفراء الذين يمثلون دولهم داخل الرباعية ، سيكون ذلك بداية قوية لعمله في السودان ، وهو أمر يحتاج لممارسة ضغوط من الجانب الأميركي في ظل رفض المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير وإصراره على الإبعاد الكامل للعسكريين من المشهد السياسي مع عدم ثقته في الإعلان الذي صدر من الفريق البرهان بالخروج من العملية السياسية ، ومما يمكن قراءته من مجريات الأحداث يبدو أن الاَلية الرباعية تعمل على التوصل إلى تسوية وترتيبات مرضية لكل من العسكريين والمدنيين، وليس واضحاً من خلال رؤية البيت الأبيض للأوضاع قي منطقة القرن الأفريقي والمخاطر والمهددات في المنطقة كيف يمكن أن تتعامل واشنطن مع التعقيدات في المشهد السياسي السوداني مع ملاحظة أن واشنطن تقول يجب ابتعاد العسكريين من السلطة بعد تشكيل الحكومة المدنية ، وقد ظل الطريق إلى تشكيل الحكومة المدنية مسدود بمتاريس الشارع وخلافات القوى السياسية.