“إن النظر يحسن اليوم ويقبح غدا” د. ياسر يوسف إبراهيم
أيهما أولي وأشد إلحاحا في لحظتنا الوطنية الراهنة هذه ( المحافظة علي وحدة البلاد أم الديمقراطية المزعومة ) ؟؟
للأسف يا سادتي المسألة بهذا التقابل ، وتنعدم فيها الخيارات ، فمنذ وقوع التغيير في العام 2018 ظلت عناصر التشظي الوطني في نمو متسارع ، كما ظلت نواتها تكبر وتتسع حتي لم يبق لها اليوم إلا ( طلقة طائشة ) تكون صافرة البداية لكابوس مخيف سيعصف بوطن ( كان إسمه السودان ) ..
وما نعايشه اليوم من فوضي شاملة تكاد تطبق علي الوطن ، وتتهدد بنيه لم يكن ليخفي إلا لمن غابت عنده البصيرة والنظر البعيد ممن يصدق عليه شطر البيت الشعري ( *فالقوم يقظي والبصائر نوّم*) ومن ثم توهم أن هذا المآل كان صدفة توافقت مع الفترة الإنتقالية ، وأن هذا السيناريو المخيف هو مجرد عارض وتهدأ بعدها الأمور ..
( 2 )
وللتأكيد علي أ ن ما يحدث اليوم هو سيناريو متكامل وخطة جاهزة يجري تنفيذها بدقة نحتاج لإعادة إستدعاء بعض الأحداث وقراءتها بعمق لنتبين حجم ما نحن فيه من مخاطر ، وما نحتاجه من جهود للخروج منها …
فحتي قبل إنفصال جنوب السودان بشهور لو وقف ناصح وطني أمين وقال مثلا إن إسرائيل هي التي تقف وراء الجهود المتسارعة لفصل الجنوب ، والعمل علي تعبئة المشاعر العدائية بين أبناء الوطن الواحد لقام ألف قلم ( وسيف ) يسفه رأيك وينعت مقالتك بنظرية المؤامرة ، ولكن وبعد صدور كتاب ( مهمة الموساد في جنوب السودان) فقد استبان كل شيء عن الدرو الكبير الذي قامت به إسرائيل من تدريب وتسليح بل وفي إعادة بناء العقيدة القتالية للجيش الشعبي بواسطة الجنرال جون طرزان الذي قال عنه سفير دولة جنوب السودان لدي إسرائيل ( *الجنوب ولد بفضل دولة إسرائيل والجنرال جون* ) والذي إستقبله الرئيس سلفاكير إستقبال الملوك وعينه مبعوثا شخصيا له لإسرائيل..
ولإستكمال الصورة نذكر بمحاضرة وزير الأمن الإسرائيلي آڤي ديختر في العام 2008 التي لخص فيها إستراتيجية بلاده تجاه السودان ، ونذكر هنا ببعض النقاط التي ذكرها
_ لا يجب أن يسمح للسودان أن يصبح قوة فاعلة مضافة إلي قوة العالم العربي .
_ *سودان ضعيف ومجزأ وهش أفضل من سودان قوي وموحد وفاعل* .
_ *إنه حان التدخل في غرب السودان وبنفس الآلية والوسائل لتكرار ما فعلته إسرائيل في جنوب السودان*.
_ *أمريكا مصرة علي التدخل المكثف في السودان لصالح إنفصال الجنوب وإنفصال دارفور علي غرار ما حدث في كوسوفو*..
والسؤال هنا هو كيف تم تصميم الفترة الإنتقالية لتكون بهذا الطول والهشاشة ، إذ من المعروف أن الدول والشعوب دائما تتحاشي إطالة أمد الفترات الإنتقالية التي تتميز بالضعف وإنعدام الشرعية السياسية ولذلك تلجأ دائما إلي تسريع الإنتخابات حتي لا تستغل القوي الخارجية إنعدام الشرعية السياسية لتنفيذ أجندات قد لا تتوافق مع المصالح العليا للبلاد ..
منذ إنفصال جنوب السودان بدأت بعض المنظمات والدوائر المناوئة للسودان في الحديث عن ضرورة إستحداث فترة إنتقالية تقوم بمهام محددة وتنفذ أهدافا مبرمجة ، وذلك بعدما استيأست من إسقاط النظام بالقوة ، وهو ما برز بشكل جلي في تقارير مجموعة الأزمات الدولية ومنظمة كفاية الأمريكية ، هذه التوجهات ترجمت عمليا في وثائق المعارضة السودانية ،حيث ورد في مواثيق الجبهة الثورية ، والفجر الجديد واخيرا ميثاق الحرية والتغيير *بندين ثابتين هما فترة انتقالية تتراوح بين أربع وست سنوات ، وإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية* ..
ومن الواضح أن مدة الأربع سنوات تم إختيارها من دوائر غربية لها مصلحة في بقاء السودان لفترة طويلة دون شرعية سياسية أو رقابة شعبية علي الحكم ،حتي يتسني تفكيك عناصر القوة المعنوية والمادية في البلاد ، وهو ما صادف هوي لدي المكونات السياسية السودانية بالإستئثار بالحكم لفترة طويلة دون تفويض إنتخابي وتحت دعاوي تفكيك النظام السابق ، والذي هو نفسه وللمفارقة يرجع في فكرته الأولي لتلك الدوائر التي إضطلعت بمهمة توحيد قوي المعارضة السودانية ، ففي تصريح شهير في العام 2017 قال جون برندر قاست رئيس مجموعة الأزمات الدولية ( *ينبغي أن نعمل علي حصر الأصول وإستردادها للشعب السوداني متي أمكن ذلك* ) ، وهو ما ورد في تقرير كفاية التي ينشط فيها عمر قمر الدين في نفس العام ( *يجب علي الولايات المتحده الامريكيه الضغط لإسترداد الأصول وإعادتها للشعب السوداني*) .
( 3 )
وخلال الأربع سنوات الماضية ، والتي غيب فيها وبشكل متعمد أي جهاز للرقابة الشعبية علي أعمال الحكومة ومراجعة قراراتها ، والمحاسبة علي أخطائها ، نتساءل مالذي منع قوي الحرية والتغيير من تكوين برلمان بالتعيين ، ولماذا تباطأ شريكا الحكم عن تنظيم إنتخابات يقول الواقع أنهما يضمنان نتائجها حينذاك ؟
لقد ترتب على تغييب الشرعية السياسية كوارث وطنية أخطرها نشر ثقافة التسيب الإداري وإستشراء الفساد الممنهج وإضعاف أجهزة الدولة وإنتشار السلاح ، وتغييب العدالة ، واستهداف الثوابت المجتمعية رموزا وتقاليد بالتسفيه والتشنيع ، وتبعا لذلك :
_ تم إتخاذ أخطر القرارات المصيرية كالتطبيع مع إسرائيل ، ورفع الدعم عن السلع وتغيير المناهج وتعديل القوانين دون أي تفويض أو رقابة شعبية ..
– تدهورت الأوضاع الأمنية بصورة مخيفة حتي احتل السودان رابع أدني مرتبة من بين الدول العربية في مؤشر السلام العالمي بحسب تقرير معهد السلام والإقتصاد العالمي للعام 2022…
– تراجع الإقتصاد السوداني بصورة مخيفة خلال الأربع سنوات الماضية ، إذ احتل المرتبة ( 18 ) إفريقيا ، بعدما كان السادس يوم تسلم حمدوك الوزارة ، وانخفضت قيمة العملة المحلية بنسبة 1000% بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية ، وانخفض متوسط دخل الفرد من 1040 دولار في العام 2018 ليكون أقل من 500 دولار في العام الحالي ، كما ارتفع التضخم لمستويات قياسية أدت إلى تآكل مدخرات البنوك ووقوفها علي حافة الإفلاس ..
– ونتيجة لتدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية وإغلاق الجامعات تواصلت هجرة السودانيين للخارج بأرقام مهولة بحثا عن الأمان والتعليم ، وهروبا من المخاوف المتزايدة من إنفجار تتزايد إحتمالات حدوثه مع تفشي خطاب الكراهية ..
( 4 )
وبما أن من صمموا الفترة الإنتقالية قد قصدوا إضعاف عناصر القوة المعنوية والمادية لبلادنا حتي يسهل عليهم تنفيذ مخططاتهم هل يجب علينا أن نتجاوب مع هذه الخطة إلي نهايتها بينما نري المصير المحتوم الذي ينتظرنا وهم يدغدغون مشاعرنا بالمدنية المتوهمة والديمقراطية الكذوب ؟
وهل علينا أن نصدق أن السفراء الذين يتحكمون في قرارنا الوطني من ( *أصدقاء السودان الذين يصادقوننا رغما عنا من شاكلة الترويكا والرباعية*) حريصون على مصلحة بلادنا أكثر منا ، وهم يطبخون تسوياتهم تحت نيران المؤامرة والفتنة ؟
إن المخرج مما نحن فيه يكمن في توفر إرادة شجاعة من أبناء الوطن تستجمع عزمها وتمضي للأمام بصورة عاجلة تستصحب معها أن أي تأخر عن إنقاذ الوطن ستكون عاقبته وخيمة ووبيلة ( *وإن الكلام اليوم وليس به غدا ، وأن النظر يحسن اليوم ويقبح غدا ، وأن القتال يحل اليوم ويحرم غدا* ، )
*ولما تأخر المنادون عن الإستجابة لنصرة الخليفة عثمان بن عفان وقعت الكارثة فلا خليفة أنقذوا ولا خلافة صانوا* ..