إبراهيم الصديق علي يكتب: معادلات المشهد السوداني: القفز فوق الوقائع!
(1)
يبدو أن القفز فوق الوقائع والشواهد هو سمة المشهد السياسي السوداني، وتلك خطوة اليائسين حين تسد أمامهم الخيارات أو يخيّل لهم ذلك.. وربما الخيار الآن مقاربات السودان والجزائر، فقد تخطينا مقاربة السودان وتونس..
نشر لي على هذا الموقع يوم ٣٠ تموز/ يوليو ٢٠٢١م تحت عنوان: “مقاربات السودان وتونس: ماذا (لو) فعلها البرهان”، وعددت فيه الشواهد والمقدمات، وحدث ما جرى يوم ٢٥ تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٢١م. وجاءت التفاصيل طبق التوقعات، والحقيقة أنها كانت مسارات واضحة المعالم.
ففي ٣ كانون الثاني/ يناير ٢٠٢١م، هدد رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول عبد الفتاح البرهان بتشكيل حكومة طوارئ أمام تباطؤ تكوين الحكومة لأكثر من ثلاثة أشهر بعد توقيع اتفاق جوبا، وعاد مرة أخرى في أيار/ مايو من ذات العام لتكرار ذات الدعوة، بل كان شديد الحدة في خطابه يوم ١١ أيلول/ سبتمبر ٢٠٢١م بعد المحاولة الانقلابية. وكان واضحاً أن حواراً دار حول تعقيدات المشهد السياسي، وجاءت نتائجه في أكثر من مظهر:
– طرح رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك مبادرته في حزيران/ يونيو من ذات العام، مع حديث عريض عن بؤس الواقع السياسي وضرورة الإصلاح..
– تشكيل مجموعات جديدة بمشاركة من شركاء السلام الجدد، وتأسيس منابر ومنصات وبناء تحالفات..
– زيادة الضغط على قوى الحرية والتغيير مما أدى إلى انقسامات وانسحاب أطراف فيها حتى سميت بمجموعة الأربعة (حزب الأمة القومي، وحزب المؤتمر السوداني، والتجمع الاتحادي، وحزب البعث)..
تلك البيئة كانت صالحة لغرس جديد.. وهو ما تحقق يوم ٢١ تشرين الثاني/ نوفمبر ٢٠٢١م، من خلال توقيع اتفاق بين الفريق أول عبد الفتاح البرهان، بصفته القائد العام للقوات المسلحة، ود. عبد الله حمدوك.
والاتفاق الذي أنجزته قوى سياسية حزبية وقادة حركات ورموز مجتمع، وتضمن ١٤ بنداً، طرح واقعاً جديداً؛ أبرز سماته: إبعاد القوى السياسية والحزبية وحتى الحركات الموقعة على اتفاق جوبا للسلام من دائرة الفعل التنفيذي، وبناء شراكة جديدة بين القوات المسلحة من جهة ورئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك من جهة أخرى، وهي خطوة حظيت بإسناد دولي وإقليمي..
(2)
قفز الاتفاق فوق الوقائع الماثلة (مكون عسكري من جانب ومكون مدني تمثله الحاضنة السياسية من جانب آخر) إلى الضغط للتركيز على مهام الانتقال دون النظر لتداعيات هذه الخطوة. وقد قللت موافقة د. حمدوك على الاستمرار رئيساً للوزراء من مخاطر انزلاق البلاد إلى حافة الانهيار..
وقد حرص د. حمدوك على تأكيد استقلالية الأداء التنفيذي من ظلال الضغط الحزبي في المرحلة القادمة، وهذا أمر جيد.. وذلك أن المرحلة القادمة مرتبطة بتأسيس واقع سياسي من خلال الحوارات حول الدستور والانتخابات واستكمال السلام، مما يقتضي عدم تحميلها غبائن القوى السياسية..
لقد أدى الاتفاق لفك حالة الارتباك في المجتمع الدولي، ما بين مؤيد لتحقيق الاستقرار في السودان ومتحفظ على “مبدأ الإنقلاب” والهالة العسكرية، وأدى هذا الاتفاق للتأكيد على المضي قدماً في الانتقال الديمقراطي..
(3)
الأيام القادمة ستكشف تغييرات موازين القوى السياسية وفك حالة الالتباس في أربعة محاور:
أولها: المجتمع الدولي والإقليمي، وواضح أنه داعم للاتفاق وسيواصل دعمه..
وثانيا: تأثير التتريس والمواكب، ومع أن وجودها يشكل أداة ضغط مهمة وتذكيرا دائما، فمن الواضح أنها محصورة في الخرطوم العاصمة وقليل الحضور في بقية الولايات. ويبدو أن فاعلية الخطوات العملية والقرارات ممثلة في إعلان حكومة كفاءات وتشكيل المفوضيات، والتركيز على قضايا الوطن والمواطن..
وثالثاً: استكمال مسار السلام، ويبدو أن عبد الواحد نور لن يكون طرفاً في التفاوض الجديد، فهو جزء من موقف سياسي..
ورابعاً: بسط الحريات، ودولة القانون. لقد شهدنا خلال عامين “عربدة سياسية” بغطاء قانوني، وموافقة ضمنية من كل الأطراف. ولئن تضمن الاتفاق الجديد مراجعة أداء لجنة التمكين، وسبق ذلك إبطال كثير من التعيينات ذات الطابع السياسي، فإن هذه خطوة منقوصة ما دامت في حالة استثناء. فالحقوق لا تجتزأ، وحين نتحدث عن معتقلين سياسيين ينبغي أن يكون ذلك شاملاً لكل معتقل..
لقد صمتت منظمات دولية وأممية وإقليمية ومحلية على تجاوزات واسعة للحقوق وعسف في الحريات، وهذا أمر معيب.. أطلقوا سراح الجميع وأفسحوا مجال العمل للجميع..
لقد جاء في كثير من أحاديث الفريق أول عبد الفتاح البرهان ود. عبد الله حمدوك أن القوى السياسية غير مفوضة بانتخابات، وهذه حقيقة، وكذلك فإنهما لم ينتخبا، لذلك ليس لهم حق عزل فصيل أو إبعاد آخر..
لقد ساعدت متغيرات دولية وإقليمية على تشكيل المشهد الجديد، فقد أرادت قوى إقليمية المضي قدماً إلى الانتخابات استناداً على تجربة الجزائر، ويبدو أن المواقف الدولية ساعدت على فتح نافذة لمشاركة سياسية أوسع.. وهذا أفضل خيارات “الممكن” في هذه المرحلة..